56
إرميــا النبـي

سفر إرميا

أصدقائي المستمعين ..
نحييكم باسم الله ، رب السلام ، الذي يريد أن يفهم الجميع طريق البر الذي أسسه ، وأن يخضعوا لهذا الطريق ، فيكون لهم سلامٌ حقيقيٌّ معه إلى الأبد. يسعدنا أن نكون معكم مرة ثانية اليوم ، لنقدم لكم حلقة أخرى من برنامجكم ‘طريق البر’.

في حلقتنا السابقة، تكلمنا عن النبي إشعياء، وعرفنا كيف أنه كتب عن المسيا المنتظر. فقبل ميلاد المسيا بسبعمئة سنة، وضع الله في ذهن إشعياء كيف سيأتي مخلص الخطاة هذا من محضر الله، ويولد من عذراء، ويحيا حياةً مقدسةً، ويصنع معجزات لا يستطيع آخر أن يعملها. إلا أن إشعياء تنبأ أيضاً أن المسيا سيسفك دمه، كحمل الذبيحة المذبوح، ليدفع ثمن خطية العالم. وبمجرد أن تكمل ذبيحته، سيقهِر الموت، ويقوم من القبر، مقدماً حياة أبدية لكل من يؤمن به. واليوم، نود أن ندرس معاً عن نبيٍّ آخر عظيم من أنبياء الله، ألا وهو النبي إرميا.

عاش إرميا في زمن بعد زمن النبي إشعياء بحوالي مئة عام. وكما رأينا من قبل، أن شعب إسرائيل لم يعُد آنذاك شعباً واحداً. بل انقسم إلى شعبين: شعب ‘‘مملكة إسرائيل’’ في الشمال، وشعب ‘‘مملكة يهوذا’’ في الجنوب. وفي أيام إرميا، دُمِّرَت مملكة إسرائيل، أي المملكة الشمالية. إذ كان الله قد أسلم شعب مملكة إسرائيل في يد الأعداء، لأنهم لم يصدِّقوا كلمة الأنبياء، فلم يتوبوا عن خطيتهم. وهكذا، لم يتبقَّ من شعب إسرائيل الأصلي إلا شعب مملكة يهوذا، أي المملكة الجنوبية. وكانت عاصمة مملكة يهوذا هي أورشليم؛ تلك التي كان فيها الهيكل الذي بناه سليمان. وكما تعلمنا من قبل، كان سبط يهوذا هو السبط الذي وعد الله أن يأتي منه المسيا إلى العالم.
وكان إرميا رجلاً يهودياً، ولد في بلدةٍ صغيرةٍ تبعد مجرد خمسة كيلومترات من أورشليم. وكان أبوه يخدم ككاهن في هيكل أورشليم. وفي هذا الوقت، كان معظم اليهود في أورشليم مازالوا متدينين، يتبعون تقاليد آبائهم، ولكنهم لم يلتفتوا إلى كلمة الرب إلههم. إلا أن إرميا كان يعتز بكلمة الله ويطيعها. وكان يتطلع إلى اليوم الذي فيه يرسل الله المسيا إلى العالم.

والآن، دعونا نسمع كيف دعا الله إرميا ليكون نبياً. ففي الأصحاح الأول من سفر إرميا، كتب إرميا يقول:
‘‘فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً: قبلما صوَّرتك في البطن، عرفتك. وقبلما خرجتَ من الرحم، قدَّستُك. جعلتُك نبياً للشعوب. فقلت: آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولدٌ. فقال الرب لي: لا تقل إني ولدٌ، لأنك إلى كل من أُرسِلك إليه تذهب، وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم، لأني أنا معك لأنقذك، يقول الرب. ومدَّ الرب يده، ولمس فمي، وقال الرب لي: ها قد جعلتُ كلامي في فمك. أنظر. قد وكَّلتُك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس.’’ (أر 4:1-10)

وهكذا، دعا الله إرميا ليكون نبيَّه. وعيَّنه الله ليذهب إلى شعبه من اليهود، ويخبرهم أن الله سيدينهم إن لم يتوبوا عن خطيتهم، ويرجعوا للرب، وإلى كلمته المقدسة. كانت مهمة إرميا ثقيلة وصعبة، لأن اليهود لم يكونوا راغبين في أن يأتي أحد ويخبرهم بأن أعمال تديُّنهم لا تَسُر الله. إلا أن إرميا لم يكن ذلك الإنسان الذي يرضي الناس. وهكذا، بشَّر إرميا لمدة أربعةٍ وعشرين عاماً في أورشليم، وفي كل أرض اليهودية، قائلاً: ‘‘الله يريدني أن أحذِّركم أنه إن لم تتوبوا عن خطاياكم، وتؤمنوا بكلمة الرب، فإن الله سيسمح لجيش بابل أن يأتي ويدخل أورشليم، ويدمِّر ويحرق المدينة والهيكل! وسوف ياخذونكم كسبايا إلى أرض بعيدة!’’ هذه هي الرسالة التي أعلنها إرميا لليهود في اليهودية.

دعونا الآن نقرأ بعض المقتطفات من كتابات إرميا، التي كان يحذِّر فيها أنسباءه اليهود. وفي سفر إرميا والأصحاح السابع، يقول الكتاب:
‘‘الكلمة التي صارت لإرميا من قِبَل الرب قائلاً: قف في باب بيت الرب، ونادِ هناك بهذه الكلمة وقل: اسمعوا كلمة الرب يا جميع يهوذا الداخلين في هذه الأبواب؛ لتسجدوا للرب. هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. أصلحوا طرقكم وأعمالكم، فأسكنكم في هذا الموضع. لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين: هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب هو. لأنكم إن أصلحتم إصلاحاً طرقكم وأعمالكم، وإن أجريتم عدلاً بين الإنسان وصاحبه، وإن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة، ولم تسفكوا دماً زكياً في هذا الموضع، ولم تسيروا وراء آلهةٍ أخرى لأذائكم، فإني أسكنكم في هذا الموضع، في الأرض التي أعطيت لآبائكم من الأزل وإلى الأبد. ها إنكم متكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع. أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذباً .. وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها، ثم تعملوا كل هذه الرجاسات، ثم تأتوت وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دُعِيَ باسمي عليه، وتقولون قد أُنقِذنا، حتى تعملوا كل هذه الرجاسات؟’’ (أر 1:7-10)

وهكذا، وبَّخ إرميا اليهود الذين كانوا يتظاهرون بأنهم يعرفون الله، ولكنهم كانوا ينكروه بأفعالهم. ويضيف إرميا في الأصحاح السابع عشر قائلاً:
‘‘هكذا قال الرب: ملعونٌ الرجل الذي يتَّكل علىالإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه. القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيسٌ، من يعرفه؟ أنا الرب فاحص القلوب، ومختبر الكلى، لأعطي كل واحد حسب طرقه، حسب ثمر أعماله.’’ (إر 5:17 ،9-10)

وهكذا، حذَّر إرميا شعب يهوذا، وأخطرهم قائلاً: ‘‘إن لم تتوبوا عن خطاياكم، وترجعوا لله، فإن جيوش بابل سوف تدمِّر مدينة أورشليم وهذا الهيكل، وستصبحون أنتم عبيدهم!’’

فما رأيكم، أصدقائي؟ هل تظنون أن شعب يهوذا احترموا كلمة الله، التي قالها على فم إرميا، والتفتوا إليها؟ لا، في الواقع. إن معظمهم لم يلتفت إلى هذا التحذير! ولا حتى الكهنة صدَّقوا كلام إرميا. بل في الحقيقة، عندما سمع الكهنة ماقاله إرميا، قبضوا عليه، وجلدوه، ووضعوا رجليه في السلاسل لمدة ذلك اليوم. فلم يستطع الكهنة أن يصدقوا أن الله قد يسمح لأعدائهم البابليين أن يدخلوا أورشليم، ويدمِّروا المدينة والهيكل الذي بناه سليمان. ففي اعتقادهم، هذا لم يكن ليحدث أبداً! فقد كانوا غاضبين على إرميا، لأنه تنبَّأ بخراب أورشليم، وكتب كلمات الله في كتاب.

فلم يكن الشعب والكهنة وحسب، هم من رفضوا قبول كلام نبي الله، إرميا، بل رفضه أيضاً ملك يهوذا. وفي الحقيقة، عندما قرأ الملك الكتاب الذي كتبه إرميا، قطع الكتاب بسكين، وألقاه في نار مدفأة ساحة القصر، كي ما يحترق الكتاب بالكامل! ذلك هو ما فعله ملك يهوذا. إذ لم يتب عن خطاياه، ولم يقبل كلمة الرب. نعم، حرق الملك كتاب إرميا، ولكنه لم يستطع أن يغيِّر أمر الرب. ولم يكن من الله إلا أن أمر إرميا ان يكتب كل كلامه في كتابٍ آخر.

ولو قرأنا سفر إرميا، سنرى كيف اضطهد الملك والكهنة وشعب يهوذا، إرميا، وسجنوه كثيراً. ففي إحدى المرات، وضعوا إرميا في حفرة طينية عميقة. ولكن الله جاء لنجدته، وأرسل له رجلاً إفريقياً، إنتشله من الحفرة.

وهناك شيءٌ مهمٌّ ينبغي أخذه في الاعتبار، ألا وهو أنه بالرغم من أن معظم اليهود رفضوا أن يسمعوا للنبي إرميا، فإن هذا لم يعنِ أنهم لم يسمعوا لأي شخصٍ آخر! فقد كانوا يسمعون لمن يدَّعون أنهم أنبياء، ولكنهم كانوا أنبياءً كذبة! فالكتاب المقدَّس يخبرنا عن كثيرين أقاموا أنفسهم كأنبياء لله، ولكنهم في حقيقة الأمر، كانوا مرائين ومخادعين؛ لأن رسالتهم لم تأتٍ من الله. ومن ثمَّ، بينما كان يعلن إرميا دينونة الله التي ستحل بأورشليم، كان الأنبياء الكذبة يتكلمون إلى شعب يهوذا قائلين: ‘‘لا، لا، إن الكارثة التي يتنبأ بها إرميا لن تحدث! بابل لا تستطيع أن تدمِّر أورشليم! لا أحد يستطيع أن يدمِّر هيكل الله! لن تروا أي كارثة! ولن يكون لكم إلا السلام!

إلا أن إرميا تكلم إلى كل اليهود، قائلاً:
‘‘هكذا قال رب الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم. فإنهم يجعلونكم تأملون باطلاً. يتكلمون برؤية قلبهم، لا عن فم الرب. لم أرسل الأنبياء، بل هم جرَوا. لم أتكلم معهم، بل هم تنبأوا. ولو وقفوا في مجلسي، لأخبروا شعبي بكلامي، وردُّوهم عن طريقهم الرديء، وعن شر أعمالهم.’’ (إر 16:23، 21-22)

وهكذا، كان إرميا يحذِّر اليهود من كلام هؤلاء المبشرين المزيَّفين. إلا أن معظم شعب يهوذا، للأسف، لم يلتفتوا لتحذير نبي الله، إرميا. بل بدلاً من ذلك، صدَّقوا كلام الأنبياء الكذبة. ومع ذلك، ففي النهاية، وبعد فوات الأوان، اكتشف الملك والكهنة والشعب والأنبياء الكذبة، من الذي كان يعلن كلمة الله الحقيقية! لقد اكتشفوا ذلك، لأن كل ما قاله إرميا عن دمار أورشليم، حدث بالفعل. فكلمة الله دائماً تتحقق.

اسمعوا لما تقوله كلمة الله:
‘‘وفي السنة التاسعة لمُلْكِ صِدْقِيَّا (ملك يهوذا)، جاء نبوخذراصَّر ملك بابل، هو وكل جيشه، على أورشليم، ونزلوا عليها، وبنوا عليها أبراجاً حواليها. فدخلت المدينة في حصار. .. وفي الشهر الرابع، في تاسع الشهر، اشتدَّ الجوع في المدينة، ولم يكن خبزٌ لشعب الأرض. فثُغِرَت المدينة (أي حدثت ثغرة أو كسر في سور المدينة)، (وهكذا، أسر الجنود ملك يهوذا). فأخذوا الملك، وأصعدوه إلى ملك بابل .. فكلَّمه بالقضاء عليه. فقتل ملك بابل بني صِدْقيَّا أمام عينيه .. في رَبْلَة. وأعمى عيني صدقيَّا، وقيَّده بسلسلتين، وجاء به ملك بابل إلى بابل .. وأحرق (نبوخذراصَّر وجنوده) بيت الرب، وبيت الملك، وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء، أحرقها بالنار، وكل أسوار أورشليم .. وسبى نبوزَرَادان رئيس الشرط بعضاً من فقراء الشعب، وبقيَّة الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربين الذين سقطوا، إلى ملك بابل، وبقيَّة الجمهور. ولكن نبوزَرَادان رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض، كرَّامين وفلاحين .. فسُبِيَ يهوذا من أرضه!’’ (إر 4:52-6، 10-16 ، 27)

وهكذا، نرى كيف تمَّم الله كل ما تنبأ به على فم نبيه إرميا. وهكذا، علم اليهود أن كل ما قاله إرميا كان كلام الحق. إلا أن هذه الحقيقة لم تُفِدهم إلا بالقليل، لأنهم كانوا قد صاروا بالفعل أسرى في أيدي الجنود البابليين.

ولكن، كيف ينبغي أن نختم درسنا اليوم؟ ربما يمكننا أن نختمه بهذه الفكرة: أنه في يوم الدينونة، كل واحد من نسل آدم سوف يعرف في النهاية ما هو حقيقي، وما هو مزيف. إلا أن الله يريدك أن تميز الآن، بين ما هو حقيقي وما هو مزيف. لأنه في يوم الدينونة، لن يجديك نفعاً، أن تعرف الحق الذي ازدريت به طول حياتك على الأرض! ففي يوم الدينونة، سيكون الوقت متأخراً جداً للتوبة، لأنك ستكون قد هلكت في خطاياك بالفعل! ولهذا تقول كلمة الله: ‘‘في وقتٍ مقبولٍ سمعتُك، وفي يوم خلاصٍ أعنتُك. هوذا الآن وقتٌ مقبولٌ، هوذا الآن يوم خلاصٍ.’’ (2كو 12:6) ‘‘أيها الأحباء، لا تصدِّقوا كل روحٍ، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأن أنبياءَ كذبةً كثيرين قد خرجوا إلى العالم.’’ (1يو 1:4)

أصدقائي المستمعين ..
في حلقتنا القادمة إن شاء الله، سنرى ما حدث لليهود الذين سُبيوا إلى بابل ..
فليبارككم الله، وأنتم تتأملون في وعد الرب، الذي كتبه النبي إرميا. يقول الرب الإله:
‘‘وتطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.’’ (إر 13:29)
 

ـــــــــــ
 

 الدرس السابع والخمسون  | فهرس دراسات طريق البِرّ | المكتبة | الصفحة الرئيسية