الهارب
جلس في مكتبه في لندن ، شاب اصفر الوجه ، متعب النفس ، يكتب في بطء وتثاقل ، وقد تسرب الضباب الكثيف الى داخل المكتب ، حتى اضطر الى اضاءة الانوار ، واستمروا يعملون عملهم في صمت ورهبة ، الى ان القى الكاتب الذي بجوار صاحبنا هذا ، قلمه فجأة ، واقترب منه وهمس في اذنه قائلاً: "اعطني نصف جنيه يا جو ، انني محتاج اليه جداً" . فقال : نصف جنيه ؟! أنت تعلم ان ليس لدي شيء . فأجابه قائلاً لا تتعجل ، ثم اقترب جداً من اذنه وقال: "انني عالم بسرك ، يجب ان تنتهز الفرصة لتكسبني قبل ان اسلمك للسلطات المختصة". فامتقع وجه جو وتمتم قائلاً : انت لا تعرف عني أي شيء ، أي سر لي ؟ فأجابه : اذن اريد ان اعرف ما شأن أحد جنود الجيش في هذا المكتب ؟ فأجابه قائلاً لست جندياً الآن. لقد رحلت فرقتي الى بلاد اجنبية حينما كنت مريضاً ، وليس هي غلطتي في ان امكث هنا فأجاب : "لا.لا. انك لا تستطيع ان تخدعني . ما انت الا هارب جبان وسوف احرص على ان اخبر كل واحد بذلك اذا انت لم تدفع اجرة صمتي ". فقال وهو يرمي بالنقود اليه : "لا تقل شيئاً خذ اجرتك" فوضع ذلك النقود في جيبه وعلى فمه ضحكة النصرة، واستأنف كل منهما عمله، وارتسمت تلك الكلمات امام جو بينما كان يحاول ان يواصل عمله بنفس مثقلة وقلب خافق
… وكأن كلمة "هارب" قد اخترقت نفسه فاشعلت فيها نار مؤججة اذ تصور نفسه موثوق اليدين مكبلاً بالقيود ، محاطاً بالجنود ، مسوقاً الى المعسكر ثانية وانحنت روحه تحت ضغط فعلته المخزية … أسفاً على جو المسكين : لقد عرف ان "طريق الخطية وعر"ان افواه المدافع في ساحة القتال بدت أخف وطأة من الرعب الذي يهدده باستمرار ، رعب يد البوليس تقبض على عنقه
…. أو رعب التهديد من زميله الكاتب …ومن ذلك الوقت اصبحت حياته ، حياة البؤس المطبق
… ولننظر اليه بعد تسع سنوات سائراً في شوارع لندن وقد انحنت قامته قليلاً ، ليس من تقدم العمر لأنه لا زال شاباً ، ولكن من ثقل الخطية التي كان يحصد نتيجتها يومياً والتي احنته قبل الأوان، ولنتتبعه اذ يدخل مكتب البريد ، وبينما هو منتظر هناك ، يستند الى الحائط اذ به ينظر في ذهول … ترى ماذا حدث ، فملك على نفسه ؟انها لوحة كبيرة معلقة على الحائط ، لم يهتم بها احد الحاضرين بل قلما نظر اليها احد
… دعنا اذا نتأمل تلك اللوحة ، كانت كلماتها الاولى هكذا : " من جلالة الملكة ــ عفو شامل ، عن الجنود الذين هربوا من المعسكرات".خفق قلب جو خفقاً عالياً ، بينما هو يقرأ ان الملكة فكتوريا بمناسبة مرور 15 سنة على حكمها قد اصدرت عفواً شاملاً عن جميع الجنود الهاربين بشرط ان يخبروا عن انفسهم في بحر شهرين واختم الاعلان بهذا القول : نحن نعلم ان أي شخص أشير اليه هنا لا يتيح لنفسه فرصة هذا العفو سوف يتعرض لأشد العقوبات بمحكمة عسكرية تنعقد في محكمة وندزور في يوم 17 حزيران يونيه سنة 1887
فقال جو : هذا عظيم جداً ولكنه لا يكاد يصدق ، لا شك ان هذا ينطبق على الحالات السهلة ولكن عفو جلالة الملكة لا يمكن ان يشمل مسكيناً مثلي وهكذا مضى في بؤسه ، ستة اسابيع اخرى وهو متردد متباطئ وفي ليلة ما ، بلغ بؤسه منتهاه .. كانت أبأس ليلة مضت عليه في حياته كلها ، لم يذق فيها طعم النوم وأخيراً انتفض قائلاً : سأعلن عن نفسي ، الموت أهون من معاناتي ، وسأثق في وعد جلالة الملكة ، واذا رفضت ان تعفو عني فليكن
…وكتب رسالة قصيرة ، عبارة عن اعتراف بالهرب من قوات جلالة الملكة منذ عشر سنوات . ثم اغلق الخطاب دون ان يجرؤ على قراءة ما كتب . وامسك قبعته واسرع الى الخارج واسقط الرسالة في اول صندوق بريد ومرت أيام بطيئة ثقيلة طويلة بينما كان جو ينتظر الرد بقلب مريض سقيم . واخيراً وصله جواب مكتوب عليه : "حكومة جلالة الملكة" فكاد يسقط على الأرض وتندى جبينه بعرق بارد وارتمى على كرسي قبل ان يجرؤ على فض الغلاف الذي سيتقرر فيه مصيره: طبعاً رفض طلبي ، وصرت رجلاً مهدر الدم ما أغباني لماذا اعلنت عن نفسي
قال هذا بينما كانت يده المرتجفة تفض الرسالة ولم تصدق عيناه ما رأت حين قرأ "شهادة عفو مطلق" مكتوب باسم جلالة الملكة وممهور باسم القائد العام نعم لقد عُفي عنه
… فوضع الوثيقة الثمينة في صدره ، وبخطوات خفيفة ورأس مرتفع تقدم نحو المكتب ، فقال صاحبه : " ايه يا جو ، نصف جنيه آخر … انها فرصة لك تشتري بها صمتي " فأجاب جو لن تأخذ مني شيئاً آخر ، لقد اخذت نصيبك يا صديقي وابرز له في نصرة الفرح شهادة العفو . فتعجب زميله في ذهول وقال : ما هذا ؟ آه لقد عُفي عنك يا جو . فأجاب جو نعم لقد عُفي عني فما الحال معك يا عزيزي القارئ ، ألا تقبل عطية العفو الإلهي المجاني المقدم لك ؟ ان دم يسوع المسيح ابن الله يطهر من كل خطية . لاحظ ان لا بد ان تعترف بأنك خاطئ للسيد الرب حتى تنال العفو الشامل . لا تؤجل ولا تتمهل ان الرب ينتظر ان تأتي اليه سريعاً قبل فوات الفرصة … نعم قبل فوات الفرصة " اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" . "هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص " . واسمع صوت الرب نفسه يقول : " من يقبل اليَّ فلا اخرجه خارجاً "