السيّد محمّد الموسوي: المسيح نوري وخلاصي

 

 

عن الناقد

بقلم الاسم لدى الناقدصدر مؤخرا باللغة الفرنسيّة كتاب بعنوان "مهما كان الثمن" ( Le Prix à payer ) لمؤلفه جوزف فاضل، أي السيّد محمد الموسوي سابقا. يتحدث فيه عن مراحل عبوره من الإسلام إلى المسيحية، ويسرد فيه بإسهاب مختلف أنواع الإضطهاد والتعذيب والتهديد التي تعرّض لها وعانى منها بسبب اختياره السير على طريق السيّد المسيح. 

إتّصل أحد أصدقاء موقع "الناقد" بالسيّد محمد الموسوي، فأجرى معه حوارا طويلا كشف فيه ولأول مرة باللغة العربية عن بعض هذه المراحل والمآسي التي مرّ بها منذ اعتناقه للمسيحية وحتى هربه من العراق إلى بلد عربيّ أولا ثمّ إلى أوروبا.
______

س – منذ صدور كتابك باللغة الفرنسية لم تجرؤ حتى الآن أية صحيفة أو وسيلة إعلام عربية أن تتكلّم عن اعتناقك للمسيحية أو عن هذا الكتاب الذي يعرف إقبالا منقطع النظير. لذلك نفتخر بأن نكون أول من ينقل بلغة الضاد المأساة المرّة التي عانيت منها بسبب ذلك. ونشكرك جزيل الشكر على تجاوبك معنا وتفضّلك بالجواب عن أسئلتنا.
بداية نودّ أن تحدثنا عن خلفيتك العائلية، من أنت ومن أية أسرة؟
ج. – أنا أنتمي إل أسرة "السيّد الموسوي" الشيعيّة العريقة في تاريخ العراق والإسلام. يعود أصلها إلى النبيّ محمد وبالتالي إلى سلالة الإمام الشهير موسى الكاظمي الذي يتحدر بدوره مباشرة من سلالة علي بن أبي طالب، إبن عم النبيّ وصهره. أسرتنا لا بل عشيرتنا كبيرة ومتشعبة، لها فروع عديدة في إيران وفي لبنان حيث يعتبر آية الله الخميني والسيّد حسن نصرالله من عشيرتنا، أي من آل الموسوي. أما والدي، السيّد فاضل علي الموسوي، فكان حتى وفاته عام 2001 زعيما وقائدا معروفا لهذه القبيلة، بالإضافة إلى ثروته الطائلة واعتباره من كبار الملاّكين الزراعيين والإقطاعيين في العراق. اشتهر بمعارفه المتعددة واختباره الواسع واعتداله الرصين وشخصيته المرموقة، وهذا ما أهّله لزعامة شؤون القبيلة الموسوية بكاملها. إن أسرتنا هي في الواقع أسرة ارستقراطية تلعب دوما دورها وتحافظ على كرامة قبيلتنا في المجتمع العراقي. وقد عمل والدي على توجيهي وإعدادي لتسلّم إدارة شؤونها عندما يعجز ويتقدم في السنّ. لذلك كنت في طفولتي كما في شبابي أشعر بأن حملا ثقيلا سيلقى يوما ما على عاتقي، فلم يتسنّ لي كباقي الأطفال أن أعيش طفولة سعيدة، هادئة، تعجّ باللعب واللهو والمرح. كان من واجبي معاشرة الراشدين وحضور الاجتماعات في القاعة الكبيرة المخصصة لذلك في دارتنا الفسيحة العامرة والتي يدعو إليها ويترأسها دائما والدي. وهذا ما كان يسبّب لي الكثير من الضجر والملل والكآبة، بالرغم مما كنت أتمتع به من امتيازات ومن تقدير واهتمام خاص سواء من قبل الوالد الذي كان يعتبرني وريثه ووليّ عهده، أو من قبل أفراد الأسرة الصغيرة أو القبيلة بكاملها بزعامة الوالد. لذلك كنت أعيش في جوّ من الرفاهية والترف والبذخ.

س – هل لك أن تحدثنا عن نظرتك إلى المسيحية قبل أن تعتنقها؟
ج – كنت، مثل كل مسلم، أعتقد أن المسيحية دين محرّف وأن المسيحيين كفرة، مشركين، أنجاس، حرّفوا كتبهم المقدّسة ويمارسون دائما الكذب والنفاق والفسق والفساد. كنت أتجنبهم وأبتعد عن معاشرتهم، لأن الناس في دارتنا كانوا دائما يرددون على مسامعنا أن المسيحيين يجتمعون في الكنائس، ليس للصلاة كما يفعل المسلمون في الجوامع، بل لممارسة الفجور وارتكاب الفحشاء الجماعية.

س – متى حصل أول احتكاك بينك وبين المسيحية؟
ج – في بداية العام 1987 كان عليّ أن ألتحق بالخدمة العسكرية بعد أن تمكنت من التهرب منها مدة خمس سنوات بفضل نفوذ والدي وعلاقاته المتينة بالمسؤولين السياسيين وإمكانية شراء ضمائر الموظفين بالمال. ولكن في المرة الأخيرة كان لا بدّ لي من الانصياع. فتمّ إرسالي إلى كتيبة المشاة في قاعدة عسكرية تبعد عشرين كلم عن شط العرب، وهو النهر الذي يفصل بين إيران والعراق. كانت تلك القاعدة معدّة كمحطة استراحة للجنود العائدين من جبهة القتال العراقية الإيرانية، بالإضافة إلى كونها مستودعا للأسلحة. لدى وصولي إلى تلك القاعدة، قيل لي أنني سأسكن في حجرة واحدة مع رفيق آخر يدعى "مسعود"، وهو إنسان طيّب ومسيحي. صدمت عند سماع ذلك، وصرخت عاليا : "هل يمكن لإبن الموسوي، زعيم أكبر قبائل العراق الشيعية، أن ينام في نفس الحجرة مع شخص مسيحي يعتبر نجسا، تنبعث منه رائحة كريهة؟" غير أنه لم يكن بوسعي رفض ذلك، فرضخت للأمر مكرها، بانتظار الفرج في اليوم التالي.

- هل حاولت ذلك فعلا؟
- عند دخولي إلى الحجرة كان مسعود موجودا فيها. رتبت أغراضي وأخذت أراقب هذا الرجل بكثير من الحذر والريبة. وبعد مرور يومين، تبيّن لي أن "مسعود" ليس خبيثا بل إنسانا مهذبا ولطيفا ونظيفا، ولا تنبعث منه أية رائحة كريهة، بعكس ما كنت أسمع في أسرتي بأنه يمكن التعرّف إلى المسيحي من الرائحة الكريهة التي تنبعث منه. عندئذ قلت في نفسي: لربما أرسلني الله سبحانه وتعالى لتبشير هذ الكافر وتحويله إلى الإسلام، وهكذا أكسب أجرا عظيما في الجنة مع حور العين وأنهار اللبن والعسل وكل الملذّات التي وعدنا بها النبيّ. ولكن في الواقع لم تكن هذه المكافأة مبتغاي الرئيسي، بل السمعة الحسنة التي سأتمتع بها بين عشيرتي والشهرة الرفيعة في المجتمع العراقي في حال نجحت في إقناعه بالإسلام.

- وهل بادرت عمليا إلى أي خطوة في هذا المجال؟ 
- في البداية، تجنبت كثيرا التطرق معه إلى المواضيع الحسّاسة، خاصة الدينية، ولكن كنت اتحيّن الفرص لأقنعه بتفوّق الإسلام وتساميه على الأديان الأخرى.

- هل تمّ لك ذلك؟
- قبل نهاية الأسبوع الأول على وصولي، كلّف مسعود بمهمةخارج القاعدة. شعرت أثناء غيابه عن حجرتنا المشتركة بانني مثل أسد في قفص، محبطا ، لا هدف لي ولا عمل. فأخذت أتفحّص المكان الذي يضع فيه أغراضه، فوقع نظري على كتاب صغير جذبني عنوانه كثيرا، "معجزات يسوع". أخذته وبدأت بقراءته. قبل ذلك لم أسمع إطلاقا بمعجزات شخص يحمل هذا الإسم. حتى في القرآن لا يذكر شيء عن ذلك. وغداة عودة مسعود من مهمته سألته عن يسوع الذي يتكلم عنه الكتاب، فأجابني حالا: "إنه عيسى بن مريم، وهو الإسم الذي أطلقه عليه القرآن." 

- هل واصلت السعي لتحقيق خطتك لأسلمة مسعود؟
- في إحدى المحادثات سألت مسعود هل عند المسيحيين كتاب مقدس مثل القرآن عند المسلمين، بهدف الإطلاع عليه ودحض تعاليمهم ومعتقداتهم، وهل بإمكانه أن يوفر لي هذا الكتاب. ولكنه قبل أن يرفض ذلك، سألني: "هل قرأت القرآن؟" أجبته: "حتما، فهل تعتبرني كافرا أومسلما سيئا؟" ولكنه كرّر السؤال مشددا: "هل قرأت القرآن فعلا؟" فأجبته بنوع من الحدّة: "ألم أقل لك إنني قرأته، وكذلك أعيد قراءته مرة كل سنة في شهر رمضان." وهنا سألني ببساطة وهدوء: "وهل فهمت معنى كل كلمة وكل آية وردت فيه؟"
لم أجرؤ أن أجيب عن سؤاله، بل لذت بالصمت، لأن سؤاله أربكني كثيرا، إذ شعرت وكأنه سيف قاطع ينحرني في الصميم. هنا تذكرت كيف كان الأئمة يعلموننا ويقولون لنا: "إعلموا أن قراءة القرآن من أوله إلى آخره واجب وتكفي للمؤمن كي يكافأ عليها في يوم الدين، وليس فهم النصّ."
غير أن مسعود إستغلّ الفرصة وعرض عليّ صفقة : "إذا شئت أن آتيك بالإنجيل للتعرف على تعاليم الدين المسيحي ، فلا مانع لديّ، شرط أن تعيد أولا قراءة القرآن محاولا التعمق بمعانيه بتجرد وصدق ومنطق سليم دون مواربة أو احتيال."
وهكذا بدأت بقراءة القرآن قراءة نقدية، دون الإشارة بشيء إلى مسعود. ولكن القلق أخذ حالا يقضّ مضجعي، إذ لم أجد شيئا في كتاب محمد يثبت اقتناعاتي السابقة التي أخذت تنهار سريعا. هنا بدأت بالتساؤلات المرّة: "ما قيمة هذا الفخر والاعتزاز الذي أتبجّح به عبر إسمي وقبيلتي وأصلي وسلالتي؟ ما الفائدة من كل ذلك؟ على ماذا أبني حياتي إذا كان الإسلام هراء وبناء فارغا؟ بمن وبماذا أؤمن من الآن فصاعدا؟"

- هل فقدت سريعا كل أمل وإيمان بهذا الدين؟
- نعم، فقدت كل أمل، وجدت نفسي كتائه في الصحراء، لا نصير له ولا دليل. كلما حاولت التفكير بحياة وسلوك محمد الذي كنت اعتبره القدوة الحسنة، وجدت نفسي أمام إنسان رهيب بكل معنى الكلمة. لم أتوقّف عن التساؤل: "كيف يعقل أن يكون محمد نبيّا مرسلا من لدن الله، هذا الرجل الذي شرّع لنفسه تعدّد الزيجات والسبايا؟ كيف يمكنني أن أقتدي برجل سلك عكس ما كان يبشر به؟ كيف يجوزله أن يطلب من إمرأة مات زوجها أن تنتظر ثلاثة أشهر وعشرة أيام قبل أن تتزوج، بينما هو تزوّج إمرأة في نفس اليوم الذي قتل فيه زوجها مع أكثر من ستمائة شخص؟"
وكذلك راودتني اسئلة كثيرة مؤلمة عن الإسلام وعن محمد تحرج كل إنسان يحتكم بصدق إلى العقل والمنطق. انهار أيماني بالإسلام ومحمد ولم يعد بوسعي أن أفكر إطلاقا بتبشير مسعود بهذا الدين.

- ومتى بدأت بقراءة الإنجيل؟
- في أيار 1987،استيقظت مرة من النوم وأنا في حالة من الغبطة والانشراح وكأنني شفيت من مرض عضال أدخل الكآبة والأسى إلى نفسي خلال الأسابيع الماضية. وعندها تذكرت حلما أتاني ليلا مفاده أنني كنت أقف على ضفّة نهر صغير، ويقف أمامي على الضفة الأخرى رجل في العقد الخامس من عمره. ولم أدري ما الذي كان يدفعني للوصول إليه. فبينما حاولت العبور وجدت نفسي معلّقا في الهواء، فارتعبت جدّا من عدم قدرتي على العودة إلى الأرض. غير أن ذلك الرجل لاحظ مؤشرات الخوف على وجهي، فمدّ لي يده وساعدني على العبور. ثمّ قال لي: "لا بدّ لك من أن تأكل من خبز الحياة كي تستطيع عبور هذا النهر وحدك." بقيت هذه الجملة محفورة في عقلي، بينما تلاشى رويدا رويدا جمال ذلك الحلم.
وحال نهوضي من الفراش، لاحظت أن مسعود قد عاد من إجازته. فحيّاني بنظرة دافئة وابتسامة هادئة. ثمّ قدّم لي كتاب الإنجيل الذي كنت قد طلبته منه قبل خمسة أشهر. ذكر لي بأن هناك أربعة أناجيل في كتاب واحد تروي حياة السيد المسيح، وكلها متوافقة في المضمون، ولكنها تختلف في طريقة الوصف والسرد. فبدأت بقراءة إنجيل يوحنا، ووقعت على الفصل السادس حيث تشير إحدى الآيات إلى "خبز الحياة"، أي الكلمة التي سمعتها ليلا في الحلم. فأعدت قراءة تلك الفقرة التي يخاطب فيها المسيح تلاميذه قائلا: "أنا خبز الحياة، من يأتي إليّ لن يجوع أبدا..." وهنا اعترتني رعشة رهيبة، وأشرق نور ساطع في حياتي فأعطاها معنى جديدا. وقعت في عشق السيّد المسيح الذي تتحدّث عنه الأناجيل. وأدركت أن حلم الليلة الماضية لم يكن حلما تافها بل دعوة أو رسالة خاصة موجّهة إليّ عبر هذه الكلمات. غمرني فرح روحاني، وتأكدت أن مجرى حياتي تغيّر تماما إبتداء من تلك اللحظة. وهكذا بدأت رحلتي الطويلة مع السيّد المسيح، كما تغيّرت نظرتي تماما إلى المسيحية والمسيحيين. فبدلا من الصلوات الخمس المفروضة يوميا في الإسلام، وجدت في الصلاة الربّانية، أي الأبانا الواردة في الإنجيل، صدى عذبا في عقلي وبلسما لذيذا مهدئا في قلبي. فقلت في نفسي: إذا كان الله يتكلّم مثل الأب الذي يحبّ أولاده، وإذا كان يغفر للخطأة ذنوبهم، إذا لن تكون علاقتي معه منذ الآن فصاعدا كما كانت سابقا، علاقة خوف ورعب وابتعاد، بل علاقة حب كما هو الحال بين أفراد العائلة. 
فبعد أن كنت مصمما على تبشير مسعود بالإسلام، لم تعد لديّ أية رغبة إلا الأكل من "خبز الحياة"،بالرغم من عدم فهمي بعد لهذا السرّ.

- كيف تلقّى مسعود هذا التحوّل الراديكالي في حياتك؟
- عندما أخبرت مسعود بالتحوّل الجذري في حياتي، كنت أتوقّع منه أن يبادرني بابتسامة عريضة وترحيب حارّ واغتباط لا مثيل له. غير أنني فوجئت بقلق رهيب واضطراب داخلي أليم يعتري هذا الرجل ويشلّ بنيته الصلبة. انفجر حالا بالغضب قائلا: "ولكنك ألا تعي ما تقول؟ ألا تعرف بأنهم سيقضون عليك؟" فأجبته: "هذا أمر مستحيل، أسرتي تحبّني ولا يمكن أن ترضى بأن يصيبني سوء." عندئذ تفرّس بي مستغيثا: "إسمع جيّدا! أنت تعرّض حياتك للخطر، وحياتي أيضا. في هذا البلد لا يستطيع أي مسلم تغيير دينه بهذه الطريقة، لأن عقابه سيكون الموت المحتّم!" لم أكترث لإنذاره، بل أجبته: "هل نسيت أن المسيح مات أيضا، ورسله تعرّضوا كذلك للإضطهاد ولأقصى المخاطر والعذابات حبّا به. فلماذا لا أقتدي أنا بهم إن كنت فعلا أحب السيّد المسيح؟". عندئذ طلب مني مسعود أن نصلّي معا ونستلهم الروح القدس كي ينوّر عقولنا. ثمّ شدّد عليّ كثيرا كي لا أتكلّم عن هذا الأمر عندما أعود إلى أسرتي. وهذا ما حاولت فعله إلى حدّ ما. 

- ماذا تعني بعبارة "إلى حدّ ما"؟
- خلال المأذونية التي تلت، لم أكتم هذا السرّ تماما. فقد ذهبت، حال وصولي إلى البيت، ألى أحد آيات الله. سألته عن رأيه بإنجيل المسيحيين، فأجابني: "هناك أشياء صحيحة فيه وأخرى خاطئة أو ناقصة، مثل مجيء النبي محمد بعد عيسى، كما أن عيسى ليس إبن الله كما يدّعون." ثم طلب مني أن لا أعود إلى استشارته بمثل هذه الأسئلة الصعبة والمضنية، قبل أن يضيف: "إن الناس يأتون إليّ لأرشدهم إلى ما هو حرام أو حلال في حياتهم. أرجوك أن تتخلّى عن كل هذه الأسئلة اللاهوتية، فهي معقّدة ولا فائدة منها."

- ماذا حصل معك بعد العودة من تلك المأذونية؟
- إن الأشهر الأربعة التي قضيتها في القاعدة العسكرية كانت من أسعد الفترات في حياتي كشاب. والمؤسف أنها مرّت كسرعة البرق، بالرغم من أن نمط الحياة في الخدمة العسكرية لم يتغيّر إطلاقا. غير أن التغيير الجذري حصل في حياتي الشخصية الداخلية وفي تلك الحجرة الضيّقة التي كنت أتقاسمها مع مسعود. 

- عمليّا كيف برز هذا التغيير؟
- الجديد في الأمر هو أننا بدأنا نصلّي معا ولساعات طويلة. فقد علّمني مسعود كيفية رسم إشارة الصليب، وتلاوة صلاة الأبانا، والسلام الملائكي، وكيفية التأمل بكلام الإنجيل. وهكذا اكتشفت كيفية التقرّب من المسيح، وكيفية الحوار الروحي معه. فقد بذل مسعود جهودا حثيثة ليشرح لي أسرار الإيمان التي يصعب فهمها على المسلم، مثل سر التثليث.

- هل انعكس كل ذلك في حياتك؟
- في الواقع، تعجبت كثيرا من النظرة الجديدة التي أخذت القيها على محيطي والاعتبار الخاص لكل إنسان أعمل أو أتعامل معه. لقد غابت تماما النظرة العلوية السابقة التي ورثتها بحكم وضعي العائلي والتي كانت بارزة في علاقاتي مع الجنود رفاقي. فقد أصبح لديّ اندفاع لخدمة الآخرين ولمحبتهم كما يحبّهم المسيح. وفي عائلتي كذلك، بات الحب الذي يعلّمنا إياه سيدنا يسوع المسيح شعاري مع كل الذين يحيطون بي، ولم يعد لديّ إلا هدف واحد ألا وهو تقاسم الفرح الداخلي الذي يغمرني مع الآخرين الذين لم يشعروا حتى الآن بجمال حلاوته.

- بعد انتهاء الخدمة العسكرية وانقطاع أخبار رفيقك مسعود وعودتك إلى الأسرة، كيف تمكنت من مواصلة حياتك المسيحية الجديدة؟
- في بداية فصل الشتاء 1987-1988 مررت بحالة من الريب. لم أعد أتمكن من الإتصال برفيق الدرب، مسعود، الذي بفضله تعرفت على المسيح وتعاليمه السامية وحبّه لبني البشر. كنت أفرح كثيرا بالصلاة الجماعية معه، وهذا ما شعرت بالحاجة إليه منذ أن افترقنا. لذلك قررت أن ابحث عن مواطنين مسيحيين في بغداد كي أصلّي معهم وأتعرف على طقوسهم أملا بإيجاد من يساعدني في سبيل الحصول على المعمودية. كنت أغتنم فرص غياب والدي عن البيت للخروج والبحث. فكلما اعتقدت انني سأجد من يساعدني من الكهنة، كانت الصدمة كبيرة تأتي وتخيّب أملي لتحقيق أمنيتي. كم من مرة اغلق رجال دين مسيحيين بابهم في وجهي عندما يسمعوني أقول: "أنا آمنت بالمسيح وأريد أن أتعمّد." كم مرة سمعت بعضهم يقول لي: "عندما يولد الإنسان مسيحيا يبقى مسيحيا، وهذا هو الحال أيضا بالنسبة للمسلم." وعندما استغثت مرة بأحدهم قائلا له: "أستعطفك باسم المسيح ودمه! أرجوك أن لا تطردني من الكنيسة"، ولكن جوابه كان حزينا ومؤلما: "ألأوامر يا أخي واضحة وصريحة وجازمة، لا يسمح لنا إطلاقا بأن نسمح للمسلمين بدخول كنائسنا." وبعد بحث طويل وخيبات أمل عديدة، لم يبق لي إلا الصلاة وقراءة الكتاب المقدس الذي كنت أجد فيه عزاء لعذابي ومدعاة للأمل. فكنت أتذكر دائما وأعود إلى ما قاله لنا المسيح في الفصل الخامس من إنجيل متى: "طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا لأن أجركم عظيم في السموات. لأنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم ."
كذلك كنت أتذكر كلام مسعود وتحذيراته: "كل مسلم يحاول الانتماء أو الإندماج في حماعة مسيحية عراقية سيواجه حتما حواجز عديدة." فبفضله كنت أثمّن شجاعة المسيحيين الأولين الذين عانوا الكثير من الاضطهادات. وكذلك بفضل الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وسير الشهداء لم أفقد الأمل إطلاقا ولم يضعف إيماني بالمسيح.

- في هذه الأجواء من البحث والتجاذب، بين الأمل والخيبة، بين العذاب والرجاء، كيف كانت علاقتك بوالدك، وكبف تمّ تزويجك؟
- في تلك الفترة، كان همي الوحيد الابتعاد عن البيت والعيش في مكان آمن أستطيع أن أمارس فيه إيماني بكل حرية ودون خوف أو قلق. لم أفكر إطلاقا بالزواج أو بتأسيس عائلة ولا بخلافة والدي على زعامة القبيلة، بالرغم من كل الامتيازات والسلطان المطلق، والثروات الطائلة التي ستأتمتع بها.
غير أن والدي كان يخطط لي عكس ذلك. في بداية العام 1992 فاجأني بقوله: "يا ابني، أريد أن أزفّك خبرا سعيدا، لقد وجدت لك عروسا." لم أستطع سماع ذلك، فأجبته للتوّ رافضا: "ولكن لا ميل لي الآن للزواج." فلم يبال بكلامي بل قاطعني قائلا: "لقد دفعت المهر وأعطيت كلامي لأسرة العروس. إعلم أن شرفي وكرامتي أصبحا على المحك، والرفض غير وارد."
وهكذا تزوجت من آنسة لم أكن أعرفها مسبقا. لا أريد الدخول الآن في كل التفاصيل. وقد رزقنا الرب مولودنا الأول، "أزهر"، في نفس السنة، وبالتحديد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول ، يوم عيد الميلاد.
وهذا ما سمح لي بالسكن مع زوجتي وإبني في بيت مستقل وبعيد عن مراقبة الوالد وأفراد الأسرة. وقد وفّر لي هذا الوضع الأسري الجديد إمكانية التحرّك ومواصلة البحث مجددا عن مجموعة مسيحية أنضم إليها وتساعدني على اقتبال سر المعمودية.

- هل نجحت في هذه المحاولة الجديدة؟
- رغم فشلي في المحاولات السابقة، لم أفقد الأمل. في صيف 1993 أعدت من جديد البحث عن المناطق التي يسكنها المسيحيون في بغداد. نجحت بعد عناء طويل في الوصول إلى أحد كبار المسؤولين في إحدى الكنائس الذي قبل أن يستقبلني بعد محاولات مضنية. وما أن كشفت له عن إسمي وأسرتي المسلمة وإيماني بالمسيح ورغبتي في قبول سرّ المعمودية، حتى ارتعب وثار غيظه وطردني خارجا. آلمني كثيرا هذا التصرّف بالرغم من تفهمي لخوف المسيحيين. إلا أن الرب كان يدبّر شؤوني. في نفس اليوم، أعلمني مواطن مسيحي بسيط بأن الكاهن الذي يخدم رعيته، يرغب في استقبالي حالا. وهكذا تعرّفت إلى رجل دين مسيحي آخر أدرك تماما صدقيّة إيماني وسمح لي بالتردد إلى كنيسته ومشاركة المؤمنين في الاحتفالات والصلوات الدينية.

- هل تمكنت من إخفاء بادرتك الجديدة عن أسرتك وخاصة عن زوجتك؟
- كنت في الواقع عازما على ترك زوجتي والهرب إلى منطقة بعيدة أستطيع فيها عيش إيماني وحياتي المسيحية بأمان وهدوء. غير أن ولدنا أزهر غيّر حياتي وتفكيري ، ولم يعد بإمكاني أن أعيش في الخفاء عنه وعن زوجتي التي أنجبت لي هذا الملاك. فبعد معاناة أليمة، صارحت زوجتي التي كانت متمسكة بإسلامها ومتديّنة كثيرا، بحقيقة محبة المسيح ولماذا آمنت به. ولكنها اغتاظت من ذلك وهربت من البيت علئدة إلى بيت ذويها. غير أن الربّ منحها القوّة والصبر كي تحتفظ بهذا السر. ثم بعد عودتها إلى البيت ، نجحت في اقناعها بقراءة الإنجيل كي تتأكد من سمو الإيمان بالمسيح. وهكذا بدأت، بعد رفضها القاطع ومحنة أليمة تجاوزتها، ترافقني مع ولدنا إلى الكنيسة وتشترك في الطقوس الدينية الرعوية، أملا بأن نتقبل جميعا سر المعمودية ونقبل جسد المسيح الذي هو خبز الحياة. غير أن الكاهن الذي تعرفنا إليه وقبل بمرافقتنا روحيّا لم يجرؤ على تعمدينا خوفا من السلطات الدينية وبالتالي السياسية.

- هل فقدت الأمل بسبب ذلك؟
- كلاّ، بل اخذت ابحث عن كنائس أخرى. وبعد عناء تعرفت على كاهن راهب من أصل اجنبي،يدعى "الأب غبريال"، يتكلم العربية بطلاقة رائعة. فبعد حوار طويل ومكثّف معه دام فترة من الوقت، وبعد نشوء صداقة بيننا وبينه، قبل أن يعمدنا بعد أن يقوم بإعدادنا وتربيتنا المسيحية الضرورية لقبول هذا السرّ العظيم.

- هل تكللت فترة الإعداد بالأمل المنشود أم لا؟
- خلال فترة الإعداد للمعمودية، كان لديّ حدس يؤرقني بأننا لن نصل إلى النهاية. بالرغم من الاحتراز بالنسبة للعائلة، توقفت عن المشاركة في الممارسات الدينية التي تشير إلى إنتمائي للإسلام. مثلا توقفت عن الصلاة ومرافقة أفراد القبيلة كل يوم خميس في زيارة الأماكن المقدّسة الشيعيّة في كربلاء. وهذا الأمر أثار كثيرا قلق العائلة.
فمساء أحد أيام صيف 1997، وأثناء غيابنا عن البيت جاء إخوتي وأولاد عمّي وبعض أفراد من قبيلتنا إلى بيتنا وأخذوا يفتّشونه، فوجدوا الكتاب المقدس الذي كنت أضعه دائما في مكان بعيد عن الأنظار، كما سألوا إبننا أزهر إلى أين يذهب كل يوم أحد معنا، فأجابهم برسم إشارة الصليب على وجهه. وهكذا انفضح أمرنا أمام العائلة وخرج للعلن. 

- ما كانت ردود فعل العائلة؟
- في صباح اليوم التالي استدعاني الوالد إلى قاعة الإستقبال. وما أن وطأتُ عتبة الباب حتى انهارت عليّ الأيادي بالضرب. غُلّت يداي ورجلاي بالسلاسل وألزمت على الركوع أرضا. وعندما رفعت رأسي قليلا لأرى من هم الذين مارسوا ذلك، تبيّن لي بأنهم إخوتي وأعمامي وأولادهم، وبينهم حسن، المسؤول في جهاز المخابرات. ولمّا سألت الوالد عما حصل، أجابني باحتدام وهيجان جنوني: "أتسأل عمّا حدث أنت الذي أصبحت مسيحيا؟ أنت مريض أو مجنون؟ هل تتخيّل العار الذي سيلحق بي، أنا والدك؟ أنت تعرف جيّدا أنه، عندما يتحوّل أحد أولاد قبيلتنا من المذهب الشيعيّ إلى المذهب السنّي، لا يسمح بعد ذلك، حتّى لأهله، بالدخول إلى دارنا ولا إلى مساجدنا. والآن ماذا سيُقال عن أحد أولادي الذي اعتنق المسيحيّة؟ لم يبق لي الآن إلا وضع حجاب على وجهي عندما أخرج ألى الشارع تماما كما تفعل أمّك." وكذلك والدتي التي دخلت القاعة، أخذت تولول وتتقيأ عبارات رهيبة: "أقتلوه، اقتلوه، وارموه في البزل!".

- ماذا حصل بعد ذلك؟
- بعد مشاورات جرت بين والدي وباقي أفراد الأسرة، نقلت في صندوق سيارة إلى النجف. في الطريق شعرت بالخوف من الموت دون قبول سرّ المعموديّة. فحال توقف السيارة هناك، قادتني أيدي إخوتي واقربائي، مكبّلا بالسلاسل، إلى مكتب آية الله الإمام محمد باقر الصدر الذي أصدر، بحضور والدي وباقي أفراد الأسرة الذين رافقوه، فتوى تقول : "إذا ما تأكد أنه تحوّل إلى المسيحية، فإنه يستحقّ الإعدام، والله سيكافئ منفذ هذه الفتوى."
عندما سمعت ذلك تنفّست الصعداء وشعرت بأن مهلة إضافية بالحياة أعطيت لي. غير أن الإخوة أعادوني إلى صندوق السيّارة التي اتّجهت نحو بغداد، دون معرفة المصير الذي ينتظرني.

- ألم تراودك في الطريقة أية فكرة عمّا سيفعلون بك؟
- في الحقيقة، كنت في حال من الضياع. أذكر فقط أن السيّارة توقّفت بعد مرور ساعتين من الوقت. وعند إخراجي من صندوقها، وجدت نفسي وجها لوجه مع إبن عمي حسن، أحد المسؤولين في المخابرات العامّة، أمام أحد السجون الأكثر شهرة في عهد صدّام، والمعروف باسم سجن "الحاكميّة" والذي كان يضمّ عادة الأسرى السياسيين والمعارضين للنظام. سلّمني حسن هناك إلى ضابط آخر وتركني دون أن يوجّه لي كلمة واحدة. أودعت حالا في هذاالسجن، حيث جرّدت من هويتي وأصبحت فقط صاحب الرقم 318.

- ماذا جرى معك في السجن؟ 
- في هذا السجن، خضعت لعمليات استنطاق وتحقيقات عديدة. أراد المحققون معرفة الكنائس التي ترددت إليها، وأسماء المسيحيين الذين تعرّفت إليهم، ومكان سكنهم، ومن هو المسيحي الأول الذي تجرأ ووجّه إليّ الكلام. هذا كل ما أرادوا معرفته كي أعفى من أي تهمة، واستعيد حريّتي. غير أن المسيح وهبني النعمة والقوّة كي لا أجيب عن أي سؤال، وأتحمّل كل أنواع التعذيب والضرب والإهانات بسبب ذلك. كانت حياة السجن مؤلمة للغاية. ساءت صحتي كثيرا بسبب انعدام العناية الصحية وسوء التغذية والجوع والمعاملة والمرض وتحمّل كل ظروف السجن القاسية التي لا يستطيع تصوّرها إلا من عرفها عن قرب وعانى من مرارتها. وبعد قضاء سنة وستة أشهر في هذا السجن، جاء يوما أحد الحرّاس، حاملا بعض الأغراض، أي الثياب التي تخصّني ونادى الرقم 318 ليقولوا لي: أنت حر. لم أصدّق ما سمعت. لم يطلب مني شيئا إلا التوقيع على وثيقة أتعهد بموجبها أن لا أتحدّث إطلاقا عمّا حدث معي في السجن وذلك تحت طائلة عقوبة الموت. غير أن شعورا غريبا انتابني أثناء خروجي من قفص السجن إلى عالم الحريّة.

- إذا، خرجت من هذا السجن الرهيب في شهر تشرين الأول / أكتوبر عام 1998، ولكن كيف تصوّرت مرحلة ما بعد السجن؟
- في الفترة التي سبقت خروجي من السجن، كنت أفكر، إذا ما أطلقت حريّتي، بالهرب إلى شمال العراق واللجؤ إلى قرية مسيحية هناك والإختباء فيها، وذلك تجنبا للعيش في منفى داخل أسرتي وفي حالة مستمرة من الكذب والنفاق مع ضميري ومع محيطي. فمن الصعب جدا أن أنسى خيانة هذه الأسرة والمعاملة السيئة التي فرضتها عليّ والعذابات النفسية والجسدية التي سبّبتها لي. فالعلاقات العاطفية التي كانت تربطني بهذه الأسرة زالت نهائيا. فقط الابتعاد عن والديّ وإخوتي سيجنّبني اللجوء إلى التوتر ولربما إلى العنف. 

- ما الذي دفعك إلى العدول عن هذه الخطّة؟
- هنا تساءلت كثيرا أمام ضميري وأمام سيدي يسوع المسيح، كيف يحقّ لي الإقدام على ذلك، تاركا ورائي زوجتي وأولادي؟ لم يكن بوسعي أن أطفئ بسرعة الشوق الذي يشدّني إلى رؤيتهم والعيش معهم والذي يعلو فوق كل اعتبار. ومن جهة أخرى، لن أستطيع العيش إطلاقا بسلام وبراحة ضمير إذا تركتهم تحت رحمة سلطة قبيلتي البغيضة، خاصة أنهم لن يتمكنوا أبدا من ممارسة حياتهم المسيحية، وسيلزمون حتما بالعودة إلى ظلامية الإسلام. وهذا أمر لن أتمكن من تحمّله إطلاقا.

- هذا ما يدلّ على عودتك إلى البيت. كيف حصل ذلك وكيف استقبلتك العائلة؟
- نعم، طلبت من سائق تاكسي أن ينقلني إلى مسكني، وقبل وصولي بمائة متر تقريبا، شاهدت أخي علي في الطريق، فأوقفت التاكسي وطلبت من أخي أن يدفع لسائق التاكسي أجرته لعدم توفّر المال معي. ثُمّ أسرعت إلى البيت. خفت أولا أن لا تعرفني زوجتي لأنني بسبب التعذيب وأوضاع السجن والخوف فقدت أكثر من نصف وزني وتغيّرت ملامحي قليلا، غير أنها حالما تعرفت عليّ أشرق وجهها بهجة وغمرتني ببسمة مفعمة بالحنان والفرح والسعادة. ولكننا لم نتمكن من تبادل عواطف الشوق والمحبة إذ تفاجأنا بصراخ عدد من الناس خارج البيت. خفت حالا من أن تتكرر الأحداث التي عشتها قبل ستة عشر شهرا، عندما اقتحم إخوتي البيت واقتادوني إلى بيت الوالد وجرى ما جرى. فكّرت حالا بالهرب، ولكن تبيّن لي سريعا بأن الهيصة كانت للابتهاج ولا للغضب. فقد قررت العائلة الاحتفال بعودتي إلى البيت، وكأنهم يحتفلون بزواجي. أما الهدف من كل ذلك فيعود فقط إلى الحفاظ على سمعة والدي وليس الفرح الحقيقي بخروجي سالما من السجن. فبدلا من أن يصرّحوا بحقيقة ما حصل، قاموا ببثّ إشاعة بين الجيران وفي الحيّ بأن إلتباسا حصل بيني وبين شخص آخر مطلوب للعدالة، فجرى توقيفي وسجني خطأ. وعندما القي القبض على الشخص المطلوب وانكشفت الحقيقة، تمّ تحريري سريعا، ولذلك يحتفلون لإبعاد الشبهة وحفظ ماء الوجه.
وهكذا أدركت جيدا أسباب توقيفي وتعذيبي كي أعترف بأسماء المسيحيين الذين رحّبوا بي وساعدوني على معرفة السيّد المسيح، كي تُبعد عنّي كل مسؤولية ويتمّ غسل شرف العائلة. إضافة إلى ذلك، علمت أثناء المحادثات أن إبن عمي، حسن، المسؤول في المخابرات، توفي بعد ثلاثة أشهر من دخولي إلى السجن، وهذا ما فسّر لي سبب التوقف عن التحقيق معي وتعذيبي منذ تلك الفترة. وهذا ما يدلّ أيضا على أنّه، كمسؤول في جهاز المخابرات، هو الذي طلب إجراء التحقيق واستخدام العنف والتعذيب معي لحثّي على إعطاء المعلومات المطلوبة.

- هل تمكنت بعد عودتك سالما إلى البيت استعادة حياتك الطبيعية بسهولة؟
- بعد انتهاء الاحتفال، لم يعد بإمكاني الإنفراد بزوجتي إلا في غرفة النوم حيث أعلمتها همسا بكل ما جرى معي منذ مغادرة البيت، وذلك لأن الوالد كان منذ توقيفي قد طلب من أخي علي وأختي شيماء البقاء والسكن معنا في البيت لمراقبة تصرفاتنا وتحركاتنا.

- ما كان ردّ فعل زوجتك عندما أطلعتها على ما حدث وكيف عاشت أثناء غيابك؟
- ما أن باشرت بإخبارها عمّا جرى حتى بدأت تتغيّر تباشير وجهها وتميل إلى الشحوب والتوتر والأسى. لم يعلمها أحد بحقيقة الأمر. قيل لها فقط بأن خطأ قضائيا جسيما وقع وتمّ بسببه توقيفي، ولم يستطع أحد فعل شيء حتى الآن. وهنا همست لي بمرارة قائلة: "الآن فهمت جيّدا لماذا لم يتوصّل والدك، بالرغم من ثروته الطائلة ونفوذه الواسع، من تحرير إبنه المدلّل. تصوّر هذا الخبث وهذا الاحتيال، أنا أشعر الآن بالخيانة والاحتقار والإهانة".
أما كيف عاشت زوجتي في فترة غيابي، فقد بقيت منغلقة على نفسها مع الأولاد. في بيئتنا الإسلامية وخاصة الشيعيّة، لا تخرج المرأة من بيتها دون زوجها. وعندما يكون زوجها في السجن، تعتبر هي أيضا سجينة البيت. لذلك سكن أخي وأختي في بيتنا بحجة مرافقتها في محنتها.
لقد أدركت تماما صعوبة العيش في ظلّ المراقبة المستمرة التي يمارسها عليها ذوو زوجها وتألّمت من ذلك كثيرا. فلم يكن بإمكانها زيارة ذويها إلا بإذن خاص من والدي وشرط أن تترك ولدنا أزهر عنده. هنا أشير إلى أن والدي تعلّق كثيرا بهذا الولد، لكونه الذكر الوحيد بين أحفاده. فقد خصّه عند الولادة بمنطقة زراعية شاسعة. ولكن زوجتي كانت ترتعب ما أن يبتعد ولدنا عن نظرها. فكانت تفضّل البقاء في البيت، وتترك أمها تأتي لموآساتها في محنتها. ولكن لم يكن بوسعها أن تمنع ولدنا من الذهاب إلى بيت جدّه عندما يطلب هذا الأخير رؤيته. وهكذا عانت زوجتي الكثير من المعاملات الخبيثة من قبل أفراد عائلتي. 

- هل تمكنت بسهولة من العودة نوعا ما إلى العيش في ظلّ حياة طبيعية والتردّد إلى الكنيسة كما في السابق؟
- اثناء غيابي وضعت العائلة يدها على أوراقنا الثبوتية وعلى كمية المال التي كانت بحوزتنا، فأصبحنا بالتالي مرتبطين ماديّا برحمة الوالد الذي كان يكلّف خدّامه بشراء الحاجيات الضرورية لنا. حتى الأراضي الزراعية والأعمال التجارية التي كانت سابقا تدرّ عليّ مداخيل كافية، حرمتُ منها ونُقلت إلى إخوتي. وكذلك المزارعون والعمّال عندنا الذين كنت قد سلفتهم سابقا مبالغ من المال رفضوا تسديدها لي دون موافقة الوالد الذي أراد إذلالي وتحطيمي نفسانيا وماديّا. وهكذا مرّت ستة أشهر تحت المراقبة الشديدة من قبل العائلة وكأنني انتقلت من سجن إلى آخر.
في هذا الجوّ قررت أنا وزوجتي عدم اللعب بالنار أملا بالوصول إلى مخرج ينقذنا. فامتنعنا عن الذهاب إلى الكنيسة، خاصة بسبب وجود "مراقبين دائمين" في البيت، وتجنبا لتعريض المسيحيين لمشاكل خطيرة. فلم يبق لنا إلا الصلاة ليلا في غرفة النوم إلى الرب يسوع كي يعضدنا في تحمّل المصاعب ومواجهة المصير.

- وهل بزغ أمامكما أي بصيص أمل في الأفق؟
- في صيف 1999 اشتدّ الحرّ كثيرا في العراق، فأخذت أتغيّب أحيانا وحدي عن البيت، وعند عودتي كنت ألاحظ أن "المراقبَين" يغطّان في سبات عميق أثناء قيلولتهما الروتينية بعد الظهر وقد ضعف اهتمامهما بتحركاتنا. لذلك قررت استخدام الفرصة للتمكن من العودة إلى لقاء "الأب غبريال". فبعد محاولات عديدة وإيجاد مبررات للخروج من البيت، نجحت في الوصول إليه مجدّدا وإعلامه بكل ما حدث لي خلال غيابي عنه مدة سنتين. كما سألته عن إمكانية مواصلة التحضير للمعمودية. فوعدني خيرا. وهكذا استعدت بصيصا من الأمل بعد هذا اللقاء السريع.

- وهل تمكنت من تجاوز كل العقبات في سبيل ذلك؟
- كان علينا أنا وزوجتي أنا نخلق أعذارا وهمية للخروج من البيت، مثل نشؤ خلافات دورية بينها وبيني بسبب معاملتي السيْئة لها، وهربها أحيانا إلى بيت ذويها، واضطراري بعد ذلك للذهاب وراءها وطلب المعذرة منها، واسترضائها كي تعود إلى رعاية أطفالنا. بحجة ذلك، كنت أستغلّ هذه الظروف للخروج والذهاب إلى لقاء الأب غبريال.
وبعد عدة لقاءات وحوارات، فاجأني قائلا: "يا عزيزي، أنت لم تتعمّد بعد، ولكنك بلا ريب أنت مسيحيّ حقيقيّ أكثر منّي ومن مسيحيّين كثيرين هنا. غير أن المسيحي الحقيقي يطيع أوامر المسيح وبالتالي أوامر الكنيسة التي تمثّله على الأرض. لذلك، واحتراسا من مخاطر عديدة، آمرك، باسم الكنيسة، أن تغادر العراق بأقرب وقت ممكن."
لم أتصوّر إطلاقا أن أسمع من "الأب غبريال" هذا القرار. فبعد محاولات وحوارات واهية معه، وبعد عناء مضن حول المصير المجهول والتفكير بمستقبل غامض للأسرة، اضطررت أنا وزوجتي للرضوخ إلى هذا الأمر وتسليم أمرنا إلى السيّد المسيح الذي حمانا حتّى تلك الفترة من كل المخاطر. 

- هذا يعني أنك عزمت على ترك العراق. فكيف تمكنت من الإعداد لهذه المخاطرة الصعبة في ظلّ كل الحواجز والصعوبات الإدارية والرقابة العائلية الصارمة؟
- في بداية العام 2000، بدأت بشكل سريّ للغاية أفكّر كيف يمكننا الإعداد لذلك في مثل هذه الأجواء. كان عليّ أولا استخراج أوراق ثبوتية جديدة، بعد أن وضع الوالد يده سابقا على كل الوثائق الخاصّة بنا وصادرها. وقد كلّفني ذلك عناء كبير مع الإدارات المختصّة لاستصدار هويات وجوازات سفر جديدة. كانت هناك أيضا عملية اختيار الحاجات الضرورية التي لا غنى لنا عنها والتخلّي عن كل ما هو ثانوي. أما همّي الأكبر فكان توفير كمية من المال تؤهلنا للعيش أقلّه شهرا قبل أن يستقرّ بنا الحال في مكان ما من العالم. فعندما ضاقت بنا الأحوال ولاحظت زوجتي الصعوبات التي عانيت منها في جمع مبلغ من المال، جاءتني بعفوية رائعة من تلقاء نفسها وقالت لي دون أي تردد: "حبيبي،هذه هي جواهري، لا قيمة لها عندي أمام محبة السيّد المسيح. حاول بيعها والحصول على كمية من المال قد تكفينا في البداية حتى يتدبّر الربّ أمرنا."
وهكذا جرى كل هذا التحضير في فترة دامت حوالي أربعة أشهر تعرّضنا خلالها لحواجز معقّدة كان علينا تجاوزها والتستر خلال تحركاتنا واللجؤ باستمرار إلى التذرّع بأمور واهية واستنباط نزاعات وهمية بيني وبين زوجتي، لتغطية كل تحرّك نقدم عليه.

- إلى أين توجّهتم بعد إتمام كل التحضيرات؟
- توجّهتا إلى بلد غربيّ حيث تأمّنت لنا بعض الإتصالات مع مسيحيّين مقيمين هناك يمكنهم مساعدتنا وتأمين مأوى لنا عند وصولنا. لدى مغادرتنا بغداد بالسيارة في اتجاه الحدود الأردنية تنفّست الصعداء قليلا، ولكن بدأ حالا همّ المرور على نقطة المراقبة العراقية على الحدود بين البلدين والتي وصلنا إليها بعد عشر ساعات من الوقت. 

- هل واجهتكم صعوبة في عبورها؟
- حصلت معنا بعض التعقيدات الإدارية بسبب ملاحظة على جواز سفري كانت تشير إلى منعي من السفر،وتساؤلات تتعلّق بكميّة الثياب التي حملناها معنا، ولكن السّيد المسيح كان برفقتنا ولم يتخلّ عنّا في تلك اللحظة الحاسمة وتمّ تجاوزها. وحالما عبرنا الحدود إلى الأردّن شكرنا الرب على نعمته وعنايته الفائقة بنا.


- متى وصلتم إلى البلد العربي الذي لجأتم إليه، وكيف تدبّرت أموركم في البداية؟
- وصلنا إليه في العشرين من شهر نيسان 2000، و تمكّنت بفضل بعض المؤمنين بالمسيح من إيجاد مسكن للعائلة. فسكنت أولا لدى أحدهم واسمه"سعيد"، وقد ذهبت إلى دائرة الهجرة معه لتسجيل الإيجار بموجب القوانين المرعيّة في البلد. وقد نشأت بيننا وبين أسرته صداقة حقيقية، فلم تنقطع الإتصالات بيننا. غير أننا كنّا دائما قلقين ومضطرين إلى تغيير أمكنة السكن لأسباب أمنية. فانتهى بنا المطاف إلى إيجاد مسكن آخر لنا بواسطة إحدى الأخوات المسيحيّات التي وجدت لنا المسكن السابق وذلك في قرية هادئة حيث وجدنا فيها جوا من الراحة بعيدا عن المدينة ومشاكلها. هناك اندمجنا مع الأهالي وتمكنّا من ممارسة واجباتنا الدينية استعدادا لتقبّل سر المعمودية. ولكن لم يدم ذلك الهدؤ طويلا.

- ماذا جرى لكم؟ هل طردتم من تلك القرية؟
- كلاّ، ولكن فوجئت في صباح أحد أيام شهر أيار بوصول الأخت المسيحية التي وجدت لنا المسكن. طلبت منا الرحيل حالا عن تلك القرية، لأن أهلي تمكنوا بواسطة الشرطة من تحديد مكان السكن الأول في المدبنة، أي لدى أسرة "سعيد". وقد أخبرتنا أن شقيقتي جاءت إلى ذلك المكان وقابلت الأسرة ، وعرضت على صاحب الملك أن يرشدها إلى مكان سكننا الجديد مقابل مبلغ خمسة آلاف دولار، إلا أن هذا الأخير رفض ذلك.

- وهل رحلتم عن تلك القرية
- فكّرنا بالرحيل ولكن إلى أين. لم يكن في الأفق أمامنا أي مخرج. قررنا رغم ذلك البقاء في تلك القرية حتى يتسنّى لنا رؤية أمل جديد وقبول سر المعمودية الذي كنّا ننتظره بفارغ الصبر. ولكننا أدركنا أن الأسرة ما زالت تبحث عنا والوالد يضع كل طاقاته وإمكانياته المادية والمعنويّة في تتبع أثرنا والقضاء علينا. لذلك خففنا كثيرا من الخروج من البيت فاقتصرنا فقط على الذهاب مرة واحدة في الأسبوع إلى الكنيسة. 

- رغم كل شيء كان همّكم قبول سرّ المعموديّة، ما هي الخطوات التي أقدمتم عليها في سبيل ذلك؟ هل قمتم باتصالات مع السلطات الكنسيّة المحليّة في سبيل ذلك؟
- في الحقيقة منذ وصولنا إلى ذلك البلد العربيّ واستقرارنا السكني نسبيّا، طلبنا من أحد المسؤولين في الكنيسة تعميدنا لكي ننتمي فعليا، عبر هذا السر، إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة. فقد أجرى هذا المسؤول إتصالات مع "الأب غبريال" ومع الإخوة المسيحيّين الذين تعرّفنا عليهم. فقد تأكّد تماما من صدقية قرارنا ومن اقتناعنا العميق بحاحتنا إلى المعمودية التي تطهر نفوسنا من الخطيئة وتسمح لنا بحياة جديدة مع المسيح. وهكذا بعد عدة جلسات تحضير وإعداد، تمّ تعميدنا في كنيسة بسيطة جدا بعيدا عن الأنظار وتحاشيا لكل طارئ وذلك في الثاني والعشرين من تموز عام 2000. وبعد المعمودية حضرنا القداس الإلهي وتناولت بشوق حار "خبز الحياة" الذي أصبح منذ ذلك الحين مصدر قوتي وفرحي الدائم.

- ما هي الخطوة التي أقدمت عليها بعد المعمودية؟
- كان عليّ بعد ذلك إيجاد عمل أستطيع من خلاله إعالة أسرتي والبدء بحياة جديدة دون الإستغاثة أو الإستعانة بالآخرين أو بالكنيسة. فبعد بحث طويل عيّنت مشرفا في ورشة بناء كنيسة. وعند إنجازها، سمح لي بالإقامة في المسكن المخصّص لوكيل الكنيسة وممارسة المهام المنوطة به.

- يبدو أنك في تلك الفترة وفي ذلك المكان بالذات، تفاجأت بمواطن عراقي مسيحي، كيف حصل ذلك؟
- خلال عملي هذا تسنّى لي التعرّف على مسيحيّين آخرين من أصدقاء "سعيد" واالسيّدة المسيحيّة، من بينهم "تياري" وهو خبير أوروبيّ كان يعمل في مشاريع التعاون، وزوجته "ألين" اللبنانية الأصل، الأمر الذي سهّل علينا عملية التواصل. وفي أحد الأيام، جاءني "سعيد" برفقة مواطن عراقي مسيحي، فعرفت أنه من جبال العراق الشمالية القريبة من كردستان ، حيث يقطن معظم المسيحيّين العراقيّين. وخلال الحديث معه، تبيّن لي أنه من نفس قرية "مسعود"، أول مسيحيّ تعرّفت عليه أثناء الخدمة العسكرية. وعندما سألته عن أحواله، أخبرني بأنه قضى نحبه في حادث سيارة بعد انتهاء خدمته العسكرية بثلاثة أيام فقط. 

- حتما كان هذا الخبر مؤلما لك؟
- في الواقع، لم يؤلمني فقط بل أثار لديّ نوعا من الإحباط. فجأة برزت بقوة فترة من تاريخي كنت أعتقد أن ذكراها زالت مع مرور الزمن. أخذت أفكّر بالأسرة التي تركها مسعود وراءه، بالأيام المباركة التي قضيناها معا في الثكنة، بالصلوات المشتركة، بمشروع الهرب من عائلتي إلى المناطق المسيحية. ذكّرني بما كان يروي لي من قصص الشهداء بين المسيحيين الأولين، وكم كنت أتمنى أن تكون لديّ نفس الجرأة والشجاعة والقوة. تذكّرت كم تألمت سابقا لعدم إتصال "مسعود" بي دون معرفة السبب. ولكن الرب سمح لي بعد مرور ثلاثة عشر سنة بمعرفة حقيقة ما جرى له.

- هل دفعك هذا الحدث بالتفكير بهجرة جديدة إلى أوروبا؟ 
- بعدما اتّضحت لديّ أشياء كثيرة، شعرت بأنني أصبحت في تلك الفترة أكثر استعداد لإيجاد مخرج يسهّل لي اللجوء إلى بلد أوروبيّ، وذلك لتأمين مكان هادئ تعيش فيه أسرتي بسلام بعيدا عن مضايقات أهلي الذين سيواصلون البحث عني في الأراضي العربيّة. قمت باتّصالات جديدة مع مكتب المفوّضيّة العليا لشؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة سعيا إلى إيجاد بلد غربي يقبل لجوئي إليه. وقد جرت الإتصالات بهذه الوكالة عبر قنصلية أوروبيّة.

- وهل نجحت المساعي في الحصول على لجؤ في الخارج؟
- لقد تعثرت كثيرا في البداية، وذلك بسبب أحد العاملين في المفوّضية العليا للاجئين، المدعو "صفيان" وهو مسلم فرنسي من أصل جزائري كلّف بالاهتمام بملفّنا. فبعد أن أعلمته بما جرى لنا شفهيّا، طلب مني كتابة كل ذلك بالتفصيل منذ البداية وحتى هربي من العراق. فلم أرضخ لهذا الطلب لأني لم أركن لكلامه ولم أثق به، خوفا من أن يتسرّب النصّ المطلوب إلى المخابرات وتكون له انعكاسات خطيرة. لذا سُمح في البداية لزوجتي ولولديّ باللجؤ إلى أوروبا، بانتظار أن ألتحق بهم بعد الإنتهاء من درس ملفّي.

ما هو السبب الذي دفع المفوّضية العليا إلى الإهتمام بملفّك الشخصي؟
- السبب أعطاه، لا بالأحرى اختلقه، السيّد "صفيان" هذا الموظّف الذي كان يتبجّح بميوله واقتناعاته العلمانيّة. فخلال حفلة استقبال رسمي في إحدى المناسبات مع مواطنين غربيّين، سأله أحد الحضور عن السبب، فأجابه بأنه "حصل على معلومات من المخابرات تفيد بأنني شاركت، أثناء وجودي في الجيش، بتدمير كنائس في شمال العراق وبقتل الأكراد بالغاز. وبالتالي، يعتبر اعتناقي للمسيحية أمرا مشبوها للغاية". ومن خلال هذا التصريح كان المدعو "صفيان" يحاول توجيه رسالة إلى الغربيّين مفادها بأنهم يريدون استقبال أناس مجرمين، إضطهدوا المسيحيّين قبل اعتناقهم الدين المسيحي.

- كيف واجهت هذه الإدعاءات الكاذبة؟
- لم أعبّر عن سروري في البداية عن رفضي تسليم "صفيان" نصّا مكتوبا يشير إلى كل مراحل الإضطهاد والتعذيب التي عانيت منها، وذلك لأنه شكّك في مصداقياتي، ثمّ لأن زوجتي لم تكن قد أعطت جوابا على قرار المفوضية العليا. فالبراهين التي اختلقها "صفيان" تبيّن سمة انتمائه للإسلام وتجذّره تعاليم هذا الدين في نفسه ومعاداته لغير المسيحيّين بالرغم من كل ما يعلنه أمام الآخرين عن حياده الديني وتمسّكه الشديد بالعلمانيّة. غير أن "صفيان" هذا هو نموذج واضح للإزدواجية المؤلمة التي يعيشها ويتخبّط فيها مسلمون كثيرون.

- ما كان جواب زوجتك على قرار المفوّضية العليا للاجئين؟
- كنت أتصوّر بأنها لربما تقبل بهذا القرار أملا بالإستفادة من هذه الفرصة وتوفير جوّ مريح للأولاد. إلا أنها عندما استُدعيت إلى مكتب المفوّضيّة وتمَّ إبلاغها بالقرار، رفضته بشكل قاطع، إذ قالت للمسؤولين: "نحن هربنا من العراق بسبب إيمان زوجي بالمسيح والصعوبات التي تحول دون ممارساتنا الدينية بحريّة هناك. فمن المستحيل أن أسافر الآن وحدي مع الأولاد إلى الخارج ويبقى زوجي المستهدف الأول وحده هنا عرضة للملاحقات والتهديدات."

- كيف استقبلت رفض زوجتك للعرض؟
- اعتبرت هذا الموقف من قبل زوجتي أهم وأكبر تعبير عن حبّها وإخلاصها وصدقها تجاهي. أدركت تماما أن إيمانها بالمسيح قويّ للغاية وبالتالي ستبقى عازمة على تحمّل المصاعب والحواجز التي تواجهنا. فهذا الموقف الذي اتخذته هو كذلك دليل حبّ سام يعلو على كل المخاطر التي تترصد بنا، وبالتالي يدحض افتراءات "صفيان" الموظّف الدولي الذي عمل على إذلالي وتلطيخ كرامتي وسمعتي.

- أثناء ذلك يبدو أن البحث عنك من قبل الأسرة لم يتوقف، فكانت لك بالمرصاد. ماذا جرى لك في أواخر كانون الأول عام 2000؟ 
- قبل أيام من عيد الميلاد المجيد في تلك السنة، ذهبت إلى أحد الأسواق في المدينة لأشتري هديّة لبنتي. وبينما كنت في طريق العودة انتظر سيّارة أجرة لأستقلّها إلى مكان سكني، سمعت نداء من سيّارة توقّفت أمامي في الشارع. تقدّمت نحوها فشاهدت داخلها أربعة من إخوتي الشباب ومعهم عمّي كريم. تبادلنا الحديث معا، فطلبوا منّي أن نتناقش بكل الأمور بهدوء بعيدا عن ضوضاء الشارع. اعتبرت تلك الفرصة مناسبة كي أكشف لهم الحقيقة وأعبّر لهم عن مدى امتعاضي لما عانيت من آلام وعذابات بسبب العائلة. صعدت معهم في السيّارة، وإذا بنا بعد عشر دقائق تقريبا خارج المدينة بالقرب من وادٍ ذي طبيعة صحراوية. توقفت السيّارة في ذلك المكان، فأدركت عندئذ الخطأ الذي ارتكبته بمرافقتي لهم ووقوعي في فخّ لا تحمد عقباه. 

- هل تمكنت من محاورتهم ومناقشتهم؟
- دام النقاش معهم حوالي ثلاث ساعات. حاولوا إقناعي بالعودة إلى البيت ونسيان الماضي. أما أنا فقلت لهم إن خياري هو المسيح ولا عودة عن ذلك إطلاقا. وهنا بدأ التهديد بالعنف وتذكيري بفتوى آية الله محمد باقر الصدر التي سيضطرون إلى اللجؤ إليها. وعندما نفذ صبرهم، سحب عمّي كريم مسدسا ووجّهه نحوي، ثم أطلق النار ولا أعلم كيف لم يصوّب جيّدا. فإذا بي أسمع صوتا نسائيا يقول لي: أهرب سريعا! حالا بدأت بالهرب، وكانت طلقات الرصاص تلاحقني حتى وقعت أرضا في بقعة من الوحل، إذ أصبت برصاصة في رجلي، وغبت عن الوعي.

- من أسرع إلى إنقاذك؟
- لا أدري! أذكر فقط أنّه عندما استيقظت وجدت نفسي على باب أحد المستشفيات في قسم الطوارئ وفي حال يرثى لها. غير أن السيّد المسيح نجّاني من هذه المحنة كي أواصل الشهادة باسمه. فخلال أربعة أيام، تمكنت من استعادة عافيتي وأدركت الخطأ الجسيم الذي اقترفته بسبب خروجي من المسكن. ولكن هذه كانت مشيئة الرب الذي نجّاني مرّة اخرى من هذا المكمن الرهيب الذي نصبته لي العائلة وكشف لي عن قدرتها في البحث عنّا ومراقبة تحرّكاتنا وتنقلاتنا.

- هل كانت هذه الحادثة نهاية المطاف في البحث عنكم؟
- كلاّ، ولكنّها كانت إنذارا لنا يشير إلى وجود إخوتي وعمّي كريم في تلك المدينة وإلى تعاونهم مع الشرطة وأجهزة المخابرات لملاحقتنا والقبض علينا. لذلك اضطررنا مرّات عديدة للهرب سرّا وتغيير مكان السكن عدة مرات والإقامة في منطقة بعيدة عن المدينة حيث قضينا عدة أشهر نعمنا خلالها براحة نسبيّة نوعا رغم القلق على مصيرنا بسبب صعوبة العودة إلى العراق أو البقاء في العالم العربي.

- هل هذا يشير إلى معاودة التفكير بالرحيل إلى الخارج؟
- هذا كان مبتغانا الأساسي. فبعد فشل محاولتنا لدى المفوّضيّة العليا للاجئين، قامت إحدى الأخوات المسيحيات بمواصلة البحث عن مخرج آخر لنا. في آخر تموز 2001 فاجأتنا بخبر سار مفاده أن إحدى السفارات الغربيّة التي اطّلعت على محاولة الإغتيال التي تعرّضت لها، ستمنحنا تأشيرة دخول إذا وجدنا عائلةأوروبيّة تتكفل باستضافتنا. وقد حدّد لنا موعد بعد يومين في سفارة تلك الدولة لاستلام التأشيرات وترتيب تفاصيل السفر.

- هل تأكدت من تذليل كل الصعوبات عند إبلاغك بهذا الخبر؟
- في الحقيقة كنت انتظر بفارغ الصبر تأكيد إمكانية السماح لي بالدخول إلى ألإتحاد الأوروبيّ. إلا أنه في اللحظة الأخيرة أُبلغت بأن أسماءنا موجودة لدى شرطة مراقبة الخروج في المطار، وبإمكانها منعنا من السفر حتى وإن توفّرت لدينا تأشيرات دخول رسمية إلى دولة أوروبيّة. غير أن العناية الإلهية بقيت ملجأنا الوحيد. فسلّمنا زمام أمورنا للرب كي يسهّل لنا عبور هذا الخطر دون الوقوع مرة أخرى بين أيادي الظلم والحقد والكراهية. لقد كان بمقدور الإسلام والمجتمع المنبثق من هذا الدين أن يحرمنا من أدنى حدّ من الحريّة الإنسانية في هذا الشرق.

- كيف تمّ تجاوز هذا الحاجز الأخير؟
- بفضل بعض الإتصالات التي جرت على مستوى عال في الدولة، أعلمت بأن الأمور ستتحلحل وسيُسهّل عبورنا الأخير في المطار في اليوم التالي. كان ذلك مساء الرابع عشر من شهر آب 2001. وهكذا عمدنا قبل كل شيء إلى توديع وشكر كل الأصدقاء الذين بفضلهم ومحبتهم وصلواتهم وتضحياتهم وصلنا إلى نهاية سعيدة. وفي صباح اليوم التالي، واجهتنا صعوبة أخيرة مع شرطة مراقبة الخروج في المطار كان من شأنها أن تؤخرنا عن الطائرة المتوجّهة إلى أوروبا. فحتى الدقيقة الأخيرة من وجودنا على أرض عربية، كنت مقتنعا أن كل شيء قد ينهار. غير أن ما حدث، كان لنا خير دليل ساطع على محبة المسيح وعنايته بنا. فقد تمكنّا من الصعود إلى الطائرة خلال الدقائق الأخيرة من موعد إقلاعها.

- هل لك أن تحدثنا عن شعورك وأنت تحلّق في الطائرة مع أسرتك؟
- خلال تلك الرحلة، رأيت حياتي التي تركتها ورائي تمر في خيالي بسرعة فائقة. شكرت السيّد المسيح الذي رافقنا وأنعم عليّنا بالخروج سالمين من هذه الجلجلة. عدت إلى نفسي واخذت اتساءل: أليست العناية الإلهية هي التي دفعت بزوجتي إلى السكوت عن إعلام ذويها باعتناقي المسيحية عندما لجأت إليهم بعد معرفتها بحقيقة أمري، بينما كانت ما تزال متمسكة بالإسلام وبمجمل معتقداته؟ كم من مرة تعرضنا للتوقيف أو للملاحقة في العراق كما في البلد العربي الذي لجأنا إليه، وكانت يد الرب دائما تنقذنا؟ كيف سمح الرب بأن لا تصيبني الرصاصات التي اطلقها عليّ إخوتي وعمّي إلا بجروح طفيفة؟ فأي مصير تخبئ لنا السماء بعد كل هذه الأحداث الخطيرة التي عانينا منها؟ الشكر والحمد والتسبيح للربّ يسوع المسيح، آمين.

- كيف كان وصولكم إلى أوروبا؟
- كان في انتظارنا الصديق الأوروبي "تياري" الذي تطوّعت اسرته لاستقبالنا في بيتها. فبعد فترة من الاستراحة، خرجنا مع هذا الصديق إلى كاتدرائية في المدينة فكانت هذه أول جوّ من الحريّة والفرح دون تستّر أو خوف من الأسرة أو من الشرطة، رغم أن الخوف كان يكبّلنا منذ سنوات عديدة ولم نتمكّن بعد من التحرّر منه.

- هل انقطعت علاقتك نهائيا مع الأسرة منذ لجوئك إلى أوروبا؟ 
- بعد مرور سنتين على وجودي في فرنسا، إتصلت بأحد الأصدقاء العراقيين فأخبرني بأن والدي فارق الحياة بعد شهر من مغادرتي الأردن. على أثر ذلك، إتّصلت تلفونيا بأخي حسن. فلم نتطرق إلى الأمور المؤلمة مع العلم أنه شارك أيضا في إطلاق النار عليّ. إكتفينا فقط بتبادل الأخبار عن أسرنا. فقد شعرت لديه بالرغبة بمساعدتي للخروج من الوضع الصعب الذي اعيشه في أوروبا كلاجئ مع أسرتي على حساب المساعدات الإجتماعية المحدودة التي تقدّمها لنا الدولة.

- وهل تشعر فعلا بأمان في وطنك الجديد؟
- لقد بدأنا نشعر تدريجيا بنوع من الأمان والسلام في هذا البلد. بفضل الربّ يسوع المسيح ونعمته تراجع الخوف كثيرا لديّ كما لدى زوجتي، كما ضمدت الجروح إلى حدّ ما. غير أنّي ما زلت بحاجة إلى كثير من الوقت، كي أغفر لعائلتي على ما سببته لي من سجن وتعذيب وحرمان. لم أتعذّب بسبب الربّ يسوع المسيح بل بسبب الحرمان من الحريّة المفروض في المجتمع الإسلامي، والذي لم يمكّن أسرتي من تجاوزه خوفا على سمعتها في المجتمع.

- هل تسنّى لك أن تشهد أمام المجتمع الغربي عن كيفية عبورك إلى المسيحية والمراحل الصعبة التي عبرتها؟
- نعم، ومنذ صدور كتابي باللغة الفرنسية، تكاثرت عليّ الدعوات من مؤسسات وجمعيات ووسائل إعلام مرئية ومكتوبة للإدلاء بشهادتي حول الطريق الصعب الذي اختاره لي المسيح كي أستحق تناول جسده المقدس وأشهد أنه هو الطريق والحق والحياة لكل بني البشر.

- ما الهدف من نشر سيرتك في كتاب؟ 
- هذا الكتاب يوضّح ويكمّل رسالتي، ألا وهي الإسهام في نزع القناع عن خطر الإسلام الجنوني، هذا الدين الذي يسعى أربابه وأنصاره إلى فرض معتقداته البالية وعاداته القبلية على العالم أجمع، ويمارس العنف وكل أنواع التعذيب ضد المسلمين الذين يبتعدون عنه أو يرتدّون إلى دين آخر. أريد أن يفهم الغرب أن العلمانية لا معنى لها إطلاقا بنظر الإسلام والمسلمين الذين يستغلونها كما يستغلّون الديموقراطية الغربية لتحطيم أسسها والقضاء على قيمها. أريد أن يدرك العالم المتحضّر أن الإنسان خلق نوعين من سلاح الدمار الشامل: السلاح الذرّي للتدمير الماديّ وسلاح الإسلام للتدمير الحضاري والإنساني والثقافي. 

- ما هي الرسالة التي تود أن توجّهها إلى المسلمين؟
- أريد أن أحثّ جميع المسلمين على إعادة قراءة القرآن قراءة نقدية عقلانية والنظر فى نصوصه وآياته بموضوعية وصدق. فإذا ما فعلوا ذلك، سيتحرّرون من عبوديّة النصّ ومن الأوهام والأساطير التي تكبّل عقولهم وتجعل منهم عبدة للأصنام. أريد أن أقول لكل مسلم صادق مع نفسه لقد آن الأوان في عصر المعلوماتية والإنترنت أن يتحرر وأن يصبح سيّد أمره ومصيره لا أن يبقى أسير نصوص شوّهت فهمه للحقيقة وأفسدت قراءته ومفهومه للحياة ولمصيره. لا بدّ للمسلمين من أن يتحوّلو أولا من الإسلام إلى الإلحاد، الأمر الذي سيفسح لهم المجال ويُسهّل لهم البحث فيما بعد عن المسيح واكتشاف عظمته وحبّه المتناهي لبني البشر. كذلك أودّ أن اقول لهم: إقرأوا الإنجيل ولا تخافوا، ستتحررون وسيغمر نور المسيح عقولكم كما سيملأ قلوبكم بالفرح.

- وإلى ذويك وقبيلتك في العراق، ماذا تتمنّى؟
- أمنيتي أولا أن يهبني الربّ يسوع نعمة نسيان ما سبّبوا لي من مآسي في حياتي وحياة زوجتي وأولادي. أود ثانية أن اغفر لهم ما فعلوا، كما أصلّي كي يتعرّفوا مثلي على المسيح، وأن يخرجوا كلّهم من ظلام الإسلام إلى نور المسيح، وأن يستنير العراق والشعب العراقي كلّه بهذا النور الساطع. وهذا ما أتمناه كذلك ومن صميم القلب لجميع المسلمين في العالم. 

إن ما كشفه السيّد محمد الموسوي عن مأساته ليس حالة خاصة أو طارئة بل إشارة حيّة وصارخة إلى معاناة آلاف العابرين من الإسلام إلى المسيحيّة، وكذلك إشارة إلى مأساة مسيحيّي الشرق الذين يعانون الأمرّين في العالم العربي والإسلاميّ، بسبب مختلف أنواع الإضطهاد المستمرّ لهم والذي لا تتحدّث عنه وسائل الإعلام إلا نادرا. فلا يمرّ أسبوع واحد دون أن يُقتل مسيحيّون يعيشون في الدول العربية والإسلامية. فهل يوجد بلد مسيحيّ واحد في العالم يُعامَل فيه أنصار واتباع محمّد مثلما يُعامَل المسيحيّون على ارض الإسلام؟

الى الكتاب المقدس | الى مجلة النعمة | الى صفحة البداية | إلى مكتبة النعمة