س: هل يوجد تعارض
بين الله والمال؟ وما هو تفسير المكتوب "لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيّدَين. لأنهُ إما
أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله
والمال."
ج: لا يوجد تعارض بين الله والمال. فالمال يرمز للخير المادي، ولا يمكن أن يوجد
تعارض بين الله وبين أي خير أو أي شيء صالح، لأن الله هو مصدر كل خير ومصدر كل صلاح،
مكتوب "كلُّ عطيةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة هي من فوق نازلةٌ من عند أبي الأنوار
الذي ليس عندهُ تغييرٌ ولا ظلُّ دوران." لكن التعارض الواضح في الآية موضوع السؤال
ليس هو بين الله والمال لكنه بين خدمة الله وخدمة المال، لأن الشيطان يريد أن يحارب
الله ويعطّل سلطانه وعمل محبته في الإنسان بأن يُغري الإنسان بمحبة المال فيصوّر له
أن سعادته وراحته ورفاهيته، بل وحياته إنما هي في المال، وإذ ينجح الشيطان في إقناع
الإنسان بعظمة المال فهو إنما يستعبد الإنسان للمال فيفقده جوهر حياته في شركته مع
الرب ويصبح الإنسان خادماً للمال وليس المال خادماً للإنسان. عكس إرادة الرب الذي
خلق المال وكل شيء لخدمة الإنسان ولم يخلق الإنسان ليخدم المال كما هو مكتوب "وقال
الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى
البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض."
وحين قال المسيح لا يقدر أحد أن يخدم سيدين أراد أن يبيّن لنا خطورة سيادة المال،
لأن سيادة المال على خدّامه تصل إلى مقارنتها بسيادة الله على خدّامه، لذلك أكّدَ
المسيح قائلاً لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، وذلك لأن سيادة المال تتعارض تماماً
مع سيادة الله، فمن يسود عليهم المال يؤمنون بفاعليته وقوته في حياتهم فيقودهم
المال إلى التكبر والابتعاد أكثر عن الله. ومن يسود عليهم الله يؤمنون بفاعليته
أيضاً وقوته العاملة فيهم فيتكرسوا تماماً لله ويرفضوا أي سيادة أخرى عليهم، فهاتان
السيادتان لا يمكن أن يلتقيا لأنهما ضدان، لذلك فسّرَ لنا المسيح موقف الإنسان
منهما قائلاً "لأنه إما أن يُبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر."
لأن الإنسان عندما يضع ثقته وجهده وحياته لخدمة السيد الذي اختاره (إما الله وإما
المال) فهو بالتالي يحتقر الآخر ولا يؤمن به ولا يصدق وعوده.
س: لكن هل لو اختار الإنسان أن يخدم الله وليس المال فهل معنى هذا أنه سيعيش معوزاً
محتاجاً؟
ج: إطلاقاً، وقد أجاب المسيح على هذا السؤال بكل وضوح في بقية كلامه في الأعداد
التالية قائلاً "لذلك أقول لكم لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا
لأجسادكم بما تَلبَسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. انظروا
إلى طيور السماءِ. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي
يقوتها. أَلستم أنتم بالحري أفضل منها. ومن منكم إذا اهتمَّ يقدر أن يزيد على قامتهِِ
ذراعاً واحدة. ولماذا تهتمُّون باللباس. تأمَّلوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب
ولا تغزل. ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجدهِ كان يَلبَس كواحدةٍ منها. فإن
كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرَح غداً في التنور يُلبسهُ الله هكذا أَفليس
بالحري جداً يُلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان. فلا تهتمُّوا قائلين ماذا نأكل أو ماذا
نشرب أو ماذا نَلبَس. فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم
تحتاجون إلى هذه كلها."
فالله يريد أن يسدد احتياجاتنا عن طريق الإيمان والالتجاء إليه، وطلب ملكوته أولاً،
وليس عن طريق الاعتماد على الأموال والممتلكات التي يصفها الكتاب بأنها "غير يقينية"
حتى أن بولس يوصي الأغنياء الذين لديهم الكثير بالاعتماد على الله وليس على المال
الذي لديهم كما هو مكتوب "أَوص الأغنياءَ في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا
رجاءَهم على غير يقينيَّة الغنى بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كلَّ شيءٍ بغنًى
للتمتُّع" فالله يمنح كل شئ ويمنحه بغنى للتمتع، لكن بحكمة أيضاً ليساعد الإنسان
على التقوى والإتضاع، لذلك إذ يذكر الكتاب أن "كلُّ عطيّةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة
هي من فوق نازلةٌ من عند أبي الأنوار الذي ليس عندهُ تغييرٌ ولا ظلُّ دوران." يُكمل
الآية قائلاً: "شاءَ فولدنا بكلمة الحقّ لكي نكون باكورة من خلائقهِ" أي أن أول
وأهم عطية صالحة يريد الله الإنسان أن يقبلها هي الولادة من فوق، هي قبول شخص الابن
"الذي أُسلِم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" وبعشرتنا مع الرب سنختبر ما
اختبره بولس الرسول حينما هتف قائلاً "إن كان الله معنا فَمَنْ علينا. الذي لم يشفق
علي ابنه بل بذلهُ لأجلنا أجمعين كيف لا يَهَبنا أيضاً معهُ كل شيءٍ." فالعشرة مع
الرب تمتعنا بكل عطية صالحة وكل موهبة تامة مع المسيح، وليس بعيداً عنه، ليس في
كورة الخنازير، بل "معه" وفيه وبه يمنحنا الله "كل شيء بغنى للتمتع."
س:هل هناك أمثلة في الكتاب لتوضيح الفرق بين خدمة المال وخدمة الله؟
ج: بالتأكيد، ولنبدأ بالابن الأصغر الذي تكلم عنه المسيح "وقال. انسانٌ كان لهُ
ابنان. فقال أصغرهما لأبيهِ يا أبي أعطِني القسم الذي يُصيبني من المال. فقسم لهما
معيشتهُ. وبعد أيَّامٍ ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كلَّ شيءٍ وسافر إلى كورةٍ
بعيدة وهناك بذَّر مالهُ بعيشٍ مُسرِفٍ. فلمَّا أنفق كلَّ شيءٍ حدث جوعٌ شديد في
تلك الكورة فابتدأَ يحتاج. فمضى والتصق بواحدٍ من أهل تلك الكورة فأرسلهُ إلى حقولهِ
ليرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأَ بطنهُ من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكلهُ.
فلم يعطِهِ أحدٌ." وهنا نجد أن هذا الإبن الأصغر قد أسلم نفسه لسيادة المال ففارق
أبيه، ثم بذّر ماله وفقد كرامته كإنسان فصار يشتهي خرنوب الخنازير، ولولا رحمة الله
التي أعادت الإبن إلى نفسه لهلك الإبن من الجوع كما هو مكتوب "فرجع إلى نفسهِ وقال
كم من أجيرٍ لأبي يفضل عنهُ الخبز وأنا أهلك جوعاً. أقوم وأذهب إلى أبي وأقول لهُ
يا أبي اخطأْت إلى السماءِ وقُدَّامك. ولست مستحقّاً بعد أن أُدعَى لك ابناً.
اجعلني كأحد أَجْراك. فقام وجاءَ إلى أبيهِ." وهناك عند أبيه تغير الموقف تماماً
فعادت للإبن كرامته وعادت إليه شركته وبهجته وفرحه وعزه، وهكذا يا أحبائي من يخدم
المال أو العالم أو الشهوات يخسر كل شيء، ومن يخدم الله يربح كل شيء.
مثال آخر هو بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم. ماذا يقول عنه الكتاب. مكتوب عن
أولاد اللعنة "قد تركوا الطريق المستقيم فضلُّوا تابعين طريق بلعام بن بصور الذي
أحبَّ أجرة الإثم. ولكنهُ حصل على توبيخ تعدّيهِ إذ منع حماقة النبي حمارٌ أعجم
ناطقاً بصوت إنسان." هذا النبي الذي أعمت محبته للمال عينيه فلم يبصر ما أبصره
حماره، ولم يفهم ما فهمه حماره فكان "يعلّم بالاق أن يُلقي معثرةً أمام بني إسرائيل
أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا." كل هذا محبة لأجرة الإثم. وماذا كانت النتيجة؟
هلاك للكثيرين، "وبلعام بن بعور قتلوهُ بالسيف."
وعلى العكس من هذا تماماً نجد دانيال يحتقر المال ويمجد إلهه، الإله الحي أمام
بيلشاصر ملك بابل الشرير الذي دعاه ليفسر له الكتابة المعجزية إذ "ظهرت أصابع يد
إنسانٍ وكتبت بإزاءِ النّبِراس على مكلَّس حائط قصر الملك والملك ينظر طرف اليد
الكاتبة. حينئذٍ تغيَّرت هيئَة الملك وأفزعتهُ أفكارهُ وانحلّت خرز حقويهِ واصطكَّت
ركبتاهُ." ولم يجد بين السحرة والكلدانيين والمنجمين والحكماء من يفسر له، فدعا
دانيال وقال له: "إن استطعت الآن أن تقرأَ الكتابة وتعرّفني بتفسيرها فتُلبَّس
الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقك وتتسلَّط ثالثاً في المملكة فأجاب دانيال وقال قدام
الملك. لتكن عطاياك لنفسك وهَبْ هباتك لغيري. لكني أقرأُ الكتابة للملك وأعرّفهُ
بالتفسير." وهنا نرى أن عطايا وهبات الملك الشرير مبغَضَه ومحتقره من خادم الله
الأمين. لذلك بارك الله دانيال جداً في كل حياته وأعلن له رؤى كثيرة، وكان يدعوه "أيها
الرجل المحبوب"
كذلك إبراهيم أبو المؤمنين حينما "جرَّ غلمانه المتمرّنين وِلدان بيتهِ ثلث مِئَةٍ
وثمانية عشر" وانتصر على أربع ملوك متحدين، "واسترجع لوطاً أخاه" نرى ملكين قد خرجا
لاستقبالهِ بعد عودتهِ منتصراً. ملك سَدُوم ويرمز للعالم، ومَلْكي صادق ويرمز
للمسيح. ماذا عمل إبراهيم؟ رفض عطاء ملك سدوم واستمتع ببركة ملكي صادق كما هو مكتوب
"مَلْكي صادق ملك شاليم أخرج خبزاً وخمراً. وكان كاهناً لله العلي وباركهُ وقال
مباركٌ ابرام من الله العلي مالك السموات والأرض ومباركٌ الله العلي الذي أسلم
أعداءَك في يدك. فأعطاهُ -إبراهيم- عُشراً من كل شيءٍ. وقال ملك سَدُوم لابرام
أعطِني النفوس وأما الأملاك فخذها لنفسك. فقال ابرام لملك سَدُوم رفعتُ يدي إلى
الرب الإله العلي مالك السماءِ والأرض لا آخُذَنَّ لا خيطاً ولا شراك نعل ولا من كل
ما هو لك. فلا تقول أنا أغنيت ابرام."
وهنا نرى أن الغِنَي الحقيقي لإبراهيم أبو المؤمنين هو في استمتاعهِ بالشركة مع
المسيح كخادم له، وفي نفس الوقت رفض أي عطية من العالم له كما علَّمنا المسيح له
المجد "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنهُ إما أن يُبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم
الواحد ويحتقر الآخر." وليهَبنا الرب نعمة لنحب الرب ونستمتع به ومعه وفيه بكل شيء
ولإلهنا كل المجد إلى الأبد آمين.