هل من العدل أن يتحمّل المسيح البار دينونة الأشرار؟

 
س: هل من العدل أن يتحمّل المسيح البار دينونة الأشرار؟

ج: في الواقع أن الصليب هو تجسيد لعدالة الله المطلقة، ولحكمته ومحبته، ولكمال صفاته الإلهية حتى إنه من المؤسف حقاً أن بعض المغرضين يرون في صليب المسيح ما يتنافى مع العدالة الإلهية، زاعمين أن في الصليب تذنيباً للبريء وتبريئا للمذنب. والحقيقة أنه في الصليب تتجلى حكمة الله وقوة الله حتى تبيد كل حكمة الحكماء ويُرفض فهم الفهماء. فالرسول بولس يقول "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالةٌ وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوَّة الله. لأنه مكتوبٌ سأُبيد حكمة الحكماءِ وأرفض فهم الفهماءِ. أين الحكيم. أين الكاتب. أين مباحث هذا الدهر."

وللتأكيد نقول إنه مكتوب في الوحي المقدس في سفر الأمثال هذه الآية "مبرّئُ المذنب ومذنّب البرئَ كلاهما مَكرَهة الرب." وحاشا لله أن يفعل ما يكرهه. ونحن إذ نتناول موضوع الصليب بالتأمل يجب علينا أولاً أن نخلع أحذيتنا من أرجلنا ونتسربل بالتواضع لأن الموضع الذي نحن واقفون عليه أرض مقدسة.. ولنطلب من المسيح "المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم." أن يكشف عن أعيننا "لمعرفة سرّ الله الآب والمسيح"

أولاً: نقول إن المسيح البار لو كان قد أُجبر على حمل دينونة الناس الأشرار ومات ضد إرادته لكان ذلك فعلاً منافياً للعدالة، أما وأن الرب يسوع قد اختار برغبته وبدافع محبته أن يحمل عار البشر وخطيتهم فإننا نرى في صلبه عدالة الله الكاملة لأنه إذ سبق وأعلن أن أجرة الخطية موت، لم يخفف هذه الأجرة على ابنه الوحيد الحبيب حين "وضع عليهِ إثم جميعنا." لكي يصير "لجميع الذين يطيعونهُ سبب خلاصٍ أبدي"

يخطئ الناس إذ يظنون أن الرب يسوع قد صُلب كشهيد لأن تعاليمه تعارضت مع تقاليد المجتمع، وينسون أنه مات كفادٍ لأنه "كان قد أحبَّ خاصَّتهُ الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى." فالمسيح لم يمت شهيداً كأنه عن ضعف، لكنه مات حباً لخاصته ليقدم الفداء للكنيسة لكل من يؤمن به وقد شهد المسيح نفسه مؤكداً ذلك بالقول "لهذا يحبُّني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحدٌ يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطانٌ أن أضعها ولي سلطانٌ أن آخذها أيضاً." وهنا نرى أن المسيح بسلطانه اختار أن يضع نفسه ولم يأخذها أحد منه.. وإذ حاول بطرس مساعدة المسيح بسيفه قال له يسوع "رُدَّ سيفك إلى مكانهِ... أَتظنُّ أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة. فكيف تُكمَّل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون"

ثانياً: يظن البعض أن موت المسيح جاء حدثاً فجائياً غير متوقَّع بالنسبة له وينسون أن دم المسيح مكتوب عنه "عالمين أنكم افتديتم ... بدمٍ كريم كما من حملٍ بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم ولكن قد أُظهِر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم" والعهد القديم يؤكد لنا ذلك أيضاً إذ تنبأ عن تجسد المسيح وعن صلبه قبل أن يتم بآلاف السنين، فالذبائح كلها ترمز إلى ذبيحة المسيح وعيد الفصح الذي يُرش فيه دم شاة صحيحة "على القائمتين والعتبة العليا" إنما يرمز إلى دم المسيح الذي يحمي من الهلاك ونلاحظ أن الدم لم يكن يُرش على العتبة السفلى لأنه يرمز إلى دم ابن الله الذي لا يصح أبداً أن يُداس. وفي بداءة الخليقة حين سقط آدم وحواء وحاولا أن يسترا عورتهما بورق التين أعلن لنا الله عن تدبيره لخلاصنا في ذبيحة المسيح إذ كسى عورتهما بجلد حيوان ذُبح لأجل هذا الغرض. وحين قبل الله ذبيحة هابيل ورفض تقدمة قايين إنما كان يعلن أن خلاصنا يتم عن طريق الذبيحة وليس عن طريق التقدمات أو الأعمال.

وفي المزامير لا سيما مزمور وفي الأنبياء لا سيما اشعياء نجد نبوات واضحة وصريحة عن صليب المسيح قبل أن يحدث بمئات السنين. كم من مرة أعلن المسيح نفسه لتلاميذه عن موته وقيامته، مكتوب "وفيما كان يسوع صاعداً إلى أورشليم أخذ الاثني عشر تلميذاً على انفرادٍ في الطريق وقال لهم. ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤَساءِ الكَهَنة والكَتَبة فيحكمون عليهِ بالموت. ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزأُوا بهِ ويجلدوهُ ويصلبوهُ. وفي اليوم الثالث يقوم" وقال المسيح لنيقوديموس "وكما رفع موسى الحيَّة في البرّية هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان" وقال المسيح أيضاً لليونانيين "الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرَح رئيس هذا العالم خارجاً. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع. قال هذا مشيراً إلى أيّة ميتةٍ كان مزمعاً أن يموت." وهذه الآية ترينا أن المسيح قد اختار أن يرتفع عن الأرض ويُعلّق على الصليب ليجذب إليه الجميع، جميع من يؤمنون به.

في فيلبي نقرأ هذه الآية الجميلة عن المسيح "الذي إذ كان في صورة الله لم يَحسِب خلسةً أن يكون معادلاً لله لكنهُ أخلى نفسهُ آخذاً صورة عبدٍ صائراً في شبه الناس. وإذ وُجِد في الهيئة كانسانٍ وضع نفسهُ وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعهُ الله أيضاً وأعطاهُ اسماً فوق كل اسمٍ"

كان من المستحيل أن نُرضي الله بتقدماتنا وأعمالنا وجهودنا لأن الله قدوس وقداسته لا تسمح بوجود ذرة من الخطية في محضره، وبالتالي لم يكن هناك بدُّ من أن يغسلنا المسيح من خطايانا ويحملها عنا ليعطينا برَّه وكماله لِنُقبل من الله.

ثالثاً: الصليب يعلن لنا عدالة الله أيضاً لأنه كان الطريقة التي هزم بها الله الشيطان، وفتح بها الطريق للإنسان ليعود إلى محضر الله ويعود للشركة مع الله، بل لينال "شركة الطبيعة الإلهية" بعد أن أغواه وأسقطه الشيطان في الخطية التي فصلته عن الله كما هو مكتوب في سفر اشعياء "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين الهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع." وأغلق الشيطان على الإنسان تحت سلطان الخطية والظلمة، لكن الكتاب يقول "شاكرين الآب الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته" والرسول يوحنا يقول "لأجل هذا أُظهِر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس." والرسول بولس يقول "وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغَلَف جسدكم أحياكم معهُ مسامحاً لكم بجميع الخطايا. إذ محا الصكَّ الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدَّاً لنا وقد رفعهُ من الوسط مسّمراً إياهُ بالصليب. إذ جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه" وهكذا حقق المسيح الوعد القديم أن نسل المرأة يسحق رأس الحية

ظن الشيطان أنه بسحق عقب المسيح وموته على الصليب قد انتصر الانتصار النهائي على الله وعلى ابنه وعلى كل خطته ومحبته لخليقته، ولم يدرِ أن هذا الصليب كان حيث تمت هزيمته هو. فالصليب كان الطريقة التي استخدمها الله ليبيد الشيطان ويجرده من سلطانه… مكتوب في رسالة العبرانيين "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس" ذلك لأن المسيح اذ ارتفع عن الارض قد رفع خطية الإنسان وأعاد الشركة بين الإنسان وبين الله ورد الإنسان إلى ملكوت الله.

لذلك فنحن نرى أن في هذا الارتفاع على الصليب دينونة للعالم وطرح لرئيس هذا العالم خارجاً مهزوماً، ففكر الله من وراء الصليب ليس مجرد استبدال موضع البري بالمذنب والمذنب بالبريء بل هو عمل أعظم بكثير من إدراك عقولنا عمله المسيح بدافع محبته ليدين ويطرح رئيس هذا العالم خارجاً وليفدي الكنيسة ويجذبها إليه..

لكل ذلك كان لابدّ أن يموت المسيح وموتهُ لم يكن متنافياً مع عدالة الله بل جاء مؤكداً لها لذلك يقول الكتاب "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمينٌ وعادلٌ حتى يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ إثمٍ." فالله يغفر خطايا التائبين المعترفين بخطيتهم والواثقين في كفاية ذبيحة المسيح على أساس أمانته وعدالته. فتعال إليه بكل خطاياك واثقالك وضع ثقتك في عمله الكفاري الكامل لأجلك على الصليب.

 

Back

رجوع الى الصفحة الرئيسية