يحتفل
المسيحيون اليوم بأحد الشعانين الذي يذكرنا بدخول السيد المسيح إلى أورشليم وبداية
أسبوع الآلام الذي يقود إلى سر الفداء أي آلام وصلب وموت وقيامة المسيح. إن هذه
الأحداث الإنجيلية تثير أسئلة لاهوتية عميقة لا بل اعتراضات قوية، نود في هذا
الحديث عرض ثلاثة منها والإجابة عليها لإلقاء الضوء على هذا السر الذي يشكل محور
الديانة المسيحية:
الاعتراض الأول: هل كان السيد المسيح يعرف بأنه سيموت على الصليب؟
والإجابة هي نعم، ونلاحظ ذلك في المقاطع الإنجيلية التالية:
1- يقول السيد المسيح لتلاميذه متنبئاً عن موته ثلاث مرات: "ها نحن صاعدون إلى
أورشليم حيث سيسلم إبن الإنسان ويتألم ويموت، وفي اليوم الثالث يقوم".
2- في بستان الزيتون يقول: "إذا كان مستطاع يا أبتِ أن تبعد عني هذه الكأس ولكن لا
تكن مشيئتي بل مشيئتك" (الكأس هنا تعني الألم والصلب).
3- عندما طلب منه اليهود آية (أي أعجوبة) أعطاهم آية يونان: "هذا الجيل الفاسد يطلب
آية ولن يعطى إلا آية يونان: فكما أن يونان بقي في بطن الحوت ثلاثة أيام، كذلك
سيكون ابن الإنسان في القبر ثلاثة أيام ثم يقوم".
4- عندما طرد الباعة من الهيكل قال لليهود: "اهدموا هذا الهيكل وأنا سأبنيه في
ثلاثة أيام" (وكان يعني بذلك هيكل جسده).
5- بعد التجلي: أوصى يسوع تلاميذه بأن لا يقولوا لأحد ما حدث إلا بعد أن يقوم ابن
الإنسان من بين الأموات.
الاعتراض الثاني: إذا كان السيد المسيح هو ابن الله وهو الله، فهل الإله (الله)
يموت؟ كما أن السيد المسيح مات موت المجرمين على خشبة الصليب، ولكن العقل البشري
يثور لمجرد التفكير في هذا الواقع المرير: إله يموت؟؟
للاجابة على هذا الاعتراض القوي، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التالية:
1- نحن المسيحيين لا نستغرب هذا الواقع لأن السيد المسيح لم يمت بوصفه إلهاً – لأن
الإله لا يمكن أن يموت، فحاشا له هذا – ولكن بوصفه إنساناً: نحن نعرف أن للمسيح
طبيعتان: إلهية وبشرية، ومن الطبيعي أن كل إنسان مصيره الموت وهذا لا يدعو
للاستغراب!
2- لقد ارتقى السيد المسيح الموت طوعاً وتمجيداً لأبيه السماوي وافتداء لبني البشر.
وهذه غاية نبيلة تستحق الموت: "ما من حبٍ أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل أحبائه".
3- المسيح نفسه أشار إلى ذلك قائلاً: "من أجل هذا يحبني الآب لأني أبذل نفسي لآخذها
أيضاً. ليس لأحد أن يأخذها مني ولكني أبذلها باختياري، ولي سلطان أن أبذلها ولي
سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية التي قبلتها من أبي".
4- لقد قرب المسيح لله أبيه هذه الطبيعة البشرية من أحشاء أمه العذراء مريم تكفيراً
عن إخوته البشر واسترضاء لله أبيه السماوي لا يحدوه على ذلك إلا حبه لهم: فكما أن
الخطيئة دخلت بمعصية إمرأة ورجل هما حواء وآدم، فكذلك الخلاص دخل البشرية بطاعة
حواء الجديدة أي مريم العذراء وآدم الجديد أي السيد المسيح، كما ورد في الواعد
الكتابي: "سيخرج من نسلك من يسحق رأس الحية".
5- كان يجب أن يكون الفادي إلهاً لكي يستطيع أن يفدي ويكفر عن خطايا كل البشرية (شمولية
الفداء)، وكان يجب أن يكون إنساناً لكي يستطيع أن يموت. فلو كان إنساناً فقط لما
استطاع أن يخلص كل البشرية، ولو كان إلهاً فقط لما استطاع أن يموت لأن الإله روح
محض ليس للموت عليه من سلطان.
إذن: سر الفداء وموت المسيح هو سر الحب الإلهي العظيم لبني البشر أجميعين.
الاعتراض الثالث: لماذا اختار السيد المسيح الموت على الصليب كأداة للخلاص؟ ألم يكن
بإمكانه أن يخلص البشر بطريقة أخرى دون أن يقاسي هذه الآلام الكبيرة؟
والجواب واضح، فقد كان بإمكان السيد المسيح أن يفدينا بطريقة أخرى لكنه فعل ذلك
ليعلمنا الدروس الثمينة التالية:
1- أمثولة خالدة في الحب: لأن البشر أجساد، أراد الله أن يبرهن لهم عن حبه بطريقة
محسوسة لكي يفهمهم جسامة المعصية، فاستعمل الصليب وموت ابنه عليه، وبذلك غسلهم بدمه
الزكي.
2- لكي يبين للبشر مدى قيمة النفس البشرية وأهميتها، فهي خالدة تستحق ثمناً غالياً
وهو دم ابن الله لأنه "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه".
3- لكي يوجز لنا أن الصليب هو "موجز وملخص الإنجيل"، فالمسيح لا يكتفي بالكلام فقط
بل طبق تعاليمه بالعمل. علم المحبة وطبقها إلى أقصى الحدود: "لا تكن محبتنا بالكلام
أو باللسان بل بالعمل والحق".
4- لكي يعلمنا بأن الصليب هو "منهل قوة". نعم الصليب أداة ضعف وعار، ولكنه بنفس
الوقت رمز القوة والغار، فإننا نفتخر بصليب يسوع المسيح كما يقول القديس بولس،
وبذلك نردد مع الفيلسوف بسكال: "إني أحب الصليب بسبب يسوع المصلوب عليه، وأحب يسوع
بسبب صليبه الذي احتمله من أجلي".
5- وقعت البشرية بسبب وقوع آدم وحواء في تجربة الشيطان بالأكل من "شجرة معرفة الخير
والشر" التي نهاهما الله عن أكلها، وقد استعمل الله صليب الخشب، شجرة الخلاص
الجديدة، لكي ينتصر على الشيطان في المعركة التي سقط فيها أبوينا الأولين، وبذلك
أصبحت شجرة العثار خشبة انتصار، ومن نفس الداء أعطى الدواء والشفاء.
6- هناك قاعدة لاهوتية تقول: "إن الإهانة على قدر المهان، والتكفير يجب أن يكون على
قدر الإهانة وعلى مستوى المهان"، من هنا كان يجب أن يكون المخلص على مستوى القدرة
للقيام بالمصالحة المطلوبة، لأن الخطيئة هي خطيئة عصيان والمهان هو الله بالذات،
ولا يستطيع أي بشري أن يجري المصالحة بين البشرية والله إلا بتكفير لائق بمستوى
الله، فكان يجب أن يموت المسيح ويكفر عن الجميع.
أخيراً، إذ ننظر إلى خشبة الصليب المقدس التي عليها صلب سيدنا يسوع المسيح، نرى
فيها درساً بليغاً في الحب الذي يجذب القلوب "وأنا إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إليَّ
الناس أجمعين"، وإذ نسجد له "نسجد لك أيها المسيح لأنك بصليبك المقدس خلصت العالم"،
نطلب منه أن يحول آلامنا وصلباننا إلى أداة خلاص ومصدر حياة: "إن حبة الحنطة التي
تقع في الأرض، إن لم تمت، تبقى وحدها، وإذا ماتت، أخربت حباً كثيراً".